الحُكم الرَّشيد واستنساخ الوحوش
سبتمبر 2, 2021 12:25 م*بسّام جميل
لا غرابة أبداً لمن يتابع المشهد الفلسطيني وما يدور فيه من أحداث آنية، أن يفهم خلفية هذه الأحداث وأن يُعيد ربطها بسياقها الطبيعي، وتحديداً ما تعتبره السلطة الفلسطينية جزءاً من مهامها بإدارة التفاصيل المُبهمة، والتي اعتادت السلطات الدّكتاتورية أن تُغرِق مجتمعاتها بها، فيكون من واجب الفِرق المُكلّفة بمتابعة وإدارة النّسيج المجتمعي، أن تقدّم أفضل رؤية لديها لإدارة ردود الفعل تجاه أي حدث وافتعال أحداث أخرى لتزكية النّعرات وتقديم التُّهم الجاهزة للمعارضين، والمعارضين المحتملين.
في ظروف شبه طبيعية وبلاد شبه طبيعية، يقضي العُرف أن تتوجّه جموع المعارضين لسياسة ما، إلى الشارع، من ثم تُصعّد خطواتها، كتقديم مرشحين للإنتخابات وتفعيل شراكات مع أحزاب أخرى، لخوض غمار المعارك الإنتخابية، ثم إسقاط منظومة العمل السياسي وقلب المشهد ومحاولة صيانة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
يصحّ وصف هذه الحال، بـ”المشهد المتكرّر” في سياسة معظم الدول الأوربية والكثير من البلاد الأخرى، إلى أن تكون القضية أكبر من شأن داخلي، فيتم إدارة هذا المشهد على أساس تحالفات إقليمية ودولية، ليصبح معظم المؤثّرين المحليين، مُقيّدين بلعبة الأمم.
المشهد الفلسطيني
تشكّلت السلطة الفلسطينية لتكون جزءاً من الحل، أي أنّها خطوة أولية لبناء مؤسسات قادرة على حمل هذه المسؤولية الكبيرة (دولة مستقلة) ولأن هذه السلطة تلعب دوراً مؤقتا، فإن شروط اللعبة كانت مُحكمة لتمضي إلى عبث المفاوضات واللّامفاوضات، عن طريق إغراق الجميع بكمٍّ هائل من التفاصيل دون وجود نيّة حقيقية للاحتلال بأن يقدّم أية “تنازلات”، يشاركه في ذلك إرادة الامريكي والخاضعين لهذه الإرادة.. الاتّحاد الأوروبي خير مثال.
إنّ الاحتلال باقٍ ويتمدّد. جملة مُرعبة تُعيد تذكيرنا بحضور الدولة الإسلامية في بلاد الشام والعراق”داعش”، لكن هل يمكن المقارنة بين دولة تملك ما تملك من القوة والاعتراف الدولي.. بكيان طارئ ومارق كتنظيم داعش؟!
أوجه الشبه كثيرة، لكننا نتحدث هنا عن كيان وظيفيّ آخر يُدعى السلطة الفلسطينية، التي تدير ما يبدو أنّه تجمّعات سكّانية متناثرة في الضفة الغربية، دون أيّ شرعية انتخاب، وكأنّها لا تحتاج لذلك طالما توفَّر لها ما يُسمّى شرعية التمويل المقدّم من الاتّحاد الأوربي والولايات المتّحدة الأمريكية، خدمة لمصالح الاحتلال، بأن تبقى لضمان عدم احتكاك السكان الأصليين مع المستوطنين الذين ينتشرون كالسرطان في جسد الضحية، وبالطبع، التنسيق الأمني لضمان وأْدِ أيّة محاولة لمقاومة هذا الاحتلال الخبيث والحفاظ على مصالحه.
عطايا الاحتلال للسلطة مقابل هذه الخدمات
من يعيش داخل مناطق السلطة، يعلم جيداً كيف يتم توزيع المنح والعطاءات، بل وتلزيم المشاريع لمؤسسات بعينها، وغير ذلك من مظاهر الفساد الإداري والوظيفي، ولا يصحّ تسميته فساداً وطنيا، لأنّ هذا المعيار لا ينطبق على هذه الثُّلَّة من المنتفعين (الفدائيين السابقين)، والثُّوار الذين جنوا أرباحاً طائلة من إبقاء الوضع على ما هو عليه اليوم، واستعدادهم للمزيد من التنازلات بإسم الشعب، مقابل ضمان بقائهم في مراكزهم والانتفاع من إدارة العبث بشتى أشكاله ومضامينه.
موقف المنظّمات والاتّحادات والنّقابات
إنّ النَّهج المُتّبع لدى السلطة هو إحباط كل ما قد يُنتِج حراكاً معارضا، واستخدام “الهراوة” المادية والمعنوية، عند الحاجة، لضمان سير العمل بما يناسب السيد المحتل. لكنّ ما حدث منذ أيام، يعيد خلط الأوراق. فبعد قضية “نزار بنان” وردود الفعل الشعبية، ثم “الهراوة” الأمنية الغليظة التي حاولت إدارة المشهد بالاعتقالات والترهيب، نجت ثم نجحت المهندسة ناديا حبش بالحصول على مركز نقيب المهندسين في نقلة نوعية في انتخابات النقابة، التي كانت محسومة للسلطة على مدى سنوات طويلة، وإحدى ألعابها.
حراكٌ جماهيريّ مُعارض في دُوّار المنارة، لكن هذه المرة كان الصمت المعنوي والمادي حاضراً بقوة، كأنّ الرسالة وصلت وتلقّفتها القيادة الفلسطينية، بأنّ الشعب لن يكون خاضعاً بل خارج رهانات المرحلة القادمة، أمام عاصفة التغيير في صراع العروش الذي ينتظر هذه الـ”دوغما” الحاكمة لتجد خليفاً للرئيس محمود عبّاس، والخلط المًنتظر لمراكز السِّيادة الحيوية اقتصاديا، والمعنيّون به حُكما.
كان أمل المجتمع الفلسطيني، في بداية تأسيس السلطة، أن تكون مدخلاً حقيقياً للوصول إلى تحرير ما. لأنّ التجربة الثورية في لبنان كانت بعيدة عن المشاهدة اليومية، لذا، كان من الصعب بمكان، أن يستطيع جمهور الداخل المحتل فهم “المنظومة العلاقاتية” التي تتحكم بعمل قيادة الثورة مع الحلفاء والخصوم والمعارضين، بل وفهم جملة الانشقاقات داخل هذه المنظومة في حينها (فتح/فتح الانتفاضة، الجبهة الشعبية/الجبهة الشعبية – القيادة العامة).
خلال أكثر من عقدين من الزمن، وفي عهد الرئيس محمود عباس، تمّ استساخ الوحوش الذين يؤدون دورهم الطبيعي بمحاولة خلق بيئة خاضعة لرغبة الفرد، أو الثَّلَّة المتنفذة لإدارة هذا الصراع الوهمي بين أطياف المجتمع، والتركيز على تكريس كل ما يثبِّت قواعد الخلاف والنعرات، التي تُستخدم عند الحاجة، لكبح جماح أيّ حراك وطني معارض، بدعم واضح من مجموعة “الحكم الرّشيد” التي تخصّص موازنة ضخمة للأجهزة الأمنية مقابل اليسير لدعم الديمقراطية الحقيقية ومسار التحرّر الوطني لإنقاذ مشروع “دولة فلسطين”.
خلاصة القول
بعد تكشّف الخذلان والسقوط المُدوّي للسلطة الفلسطينية في معركة القدس وما نتج عنها من أحداث، أصبح واضحاً أنّ هذه المنظومة تعيش أيامها الأخيرة، رغم بقاء الدّعم لها من الجهات المعهودة، كمتنفَّس إنقاذي ربما، لكنّ حراك الشارع، رغم الخوف الذي ينتجه الاستهداف الفردي للناشطين والمعارضين، سيؤمِّن فرصة الدّفع النوعي لمنظومة عمل، تتشكّل في هذه الأثناء، لتكون سدّاً منيعاً مُشتبكاً في الخطوط الأمامية ضدّ الاحتلال ووكلائه المنتفعين في السلطة الفلسطينية، وأيّ كيان طارئ شبيه، سيتمّ تشكيله في المرحلة القادمة.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
الاحتلال, السلطة الفلسطينية, القضية الفلسطينية, بسام جميل, صمود, فلسطين