“الفِلسطيني الجيِّد”

التصنيفات : |
أكتوبر 21, 2021 10:33 ص

*وسام سباعنة

بات من الواضح أنّه لا سبيل لإقامة نظام عالمي دون شرعية دولية، وهي النتيجة التي خلُصت إليها أمريكا والقوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

فبعد انتصار واشنطن في الحرب الباردة وحسم الصراع لصالح المعسكر الغربي، الرأسمالية وسيطرتها وحلفاؤها على الشرعية الدولية متمثلة بالأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان، واحتكارها للقيم الإنسانية وعلى رأسها الديمقراطية*، وتبنّيها لرؤية خاصة ترتكز أساساً على مفهوم “العالم الحرّ” المتقدم والمتفوق.

أداة الإستعمار في يد الاحتلال

بعد وصول مشروع أوسلو إلى طريق مسدود نتيجة التعنت الإسرائيلي ومواصلة التوسع الإستيطاني في الضفة، والسعي المحموم إلى قضم الأراضي والبيوت في القدس وتهميش ملف اللاجئين والأسرى، وفرض حصار جائر على غزة، لم يعد للإدّعاء بتمثيل السلطة للشعب الفلسطيني أي معنى. وبهذا يبدأ الإنفضاض عنها ونزع شرعيتها بذرائع عدة تتعلق بالفساد والإستبداد وغيره من مظاهر سلبية تمارسها هذه السلطة، تتعارض مع ادّعاءات المجتمع الدولي بتعزيز قيم مثل النزاهة والديمقراطية ومكافحة الفساد وملف حقوق الإنسان. تتعرض الشرعية الدولية دائماً لذات المأزق حيث تنتهي الأدوات التي دعمتها في المنطقة وأعطتها الشرعية والمال والسلاح لتفرض وجودها في المنطقة، إلى كيانات فاقدة للتأييد الشعبي غارقة في الفساد ومفتقرة لأي تأثير.

عمد الإنتداب البريطاني، منذ بداية وجوده في فلسطين وكأي نظام استعماري، إلى خلق “نخبة” فلسطينية تؤيد المشروع الإستعماري في فلسطين وتعهداته بإنشاء وطن قومي لليهود فيها. وكان المطلوب من هذه الطبقة أو النخبة أن تدّعي تمثيل الشعب الفلسطيني وتعمل على تحقيق مصالح الإستعمار وتمرير سياساته وتعهداته وأطماعه وإخماد أيّ مقاومة ضدّه. ولعلّنا، إذا مررنا على تاريخ العلاقة بين الإستعمار البريطاني والمجتمع الفلسطيني، نعرف من هي القيادات التي تقرّب منها الإستعمار أو اعترف بها، ومن هي القيادات التي حاربها الإستعمار ولاحقها في كل شتات الأرض من خلال حملات عسكرية شعواء شنّها لملاحقتهم وإعدامهم والتنكيل بهم .

عزّز الإستعمار البريطاني مكانة عائلات تقليدية في المجتمع الفلسطيني البرجوازي الجديد، الذي بدأت تفرزه سياسة الإستعمار لتسهيل سياساتها الإقتصادية في فلسطين، مثل النشاشيبي وغيرها من العائلات، والتي كانت لديها مطالب تتعلق بمزيد من حقوق العرب في التمثيل وتشكيل قيادة تحت رعاية الإستعمار، وحتى مع المشروع الصهيوني في المنطقة مقابل إضعاف القيادة التقليدية (عائلة الحسيني).

بينما كانت القيادات الجماهيرية والمحرِّضة والمقاوِمة، على رأسها عزّ الدّين القسّام وإخوانه المجاهدين، في أعلى قائمة المطلوبين بعد ما أدركت بريطانيا خطورة هذا التيار الذي يمثلونه، لمواجهة الإستعمار والخطر الصهيوني بكل الوسائل.. وفي مقدمتها المقاومة المسلحة.

لم تكن المواقف الإستعمارية التقليدية من هذه الحركات أو الأحزاب أو العائلات مبنية على تقييم الأشخاص أو خلفياتهم أو أهميتهم في المجتمع وقدرتهم على تمثيله، بل على أساس مواقفهم من الإستعمار أولا، ومقدار قوّتهم أو ثقلهم السياسي أو الإجتماعي أو العسكري..

وبهذا يكون “الفلسطيني الجيّد”، عند الإستعمار البريطاني، هو الفلسطيني الخانع والمتآمر على شعبه بالتنازل عن حقوقه الوطنية الكبرى، هو الفلسطيني المستسلم الذي قد يعارض في آليات الإستعمار لكنه لا يبحث في شرعيته أو في طريقة مقاومته.

وهذا يحيلنا مباشرة إلى تجربة روابط القرى التي حاول الكيان الصهيوني إعادة إحيائها في الثمانينات- مستعيداً تجارب إستعمارية سابقة*- من خلال دعم المخاتير وبعض كبار العائلات والعشائر، في محاولة منه  لإيجاد هياكل محلية مرتبطة بالإستعمار تقف بينه وبين الشعب الفلسطيني وتحوّل التناقض الأساسي بين الشعب الفلسطيني والإستعمار إلى تناقضات ثانوية.

تُبنى هذه الهيكليات وفق آليات ومواصفات محددة أبرزها:

النفعيّة، بحيث تثبت أهميتها وحجمها بمقدار استطاعتها على إقامة علاقات نفعية مع المجتمع. وبهذا تقوم على التوظيف الوهمي أو المتضخم، وتعمل على بناء علاقات نفعية ممكن أن تصل إلى حد بذل المال لأجل الإنتخاب.

تعزيز الأطر التقليدية في المجتمع، والتي يسهل إرضاؤها واحتواؤها مما يمكنّها من السيطرة التامة على المجتمع عبر نسج علاقات مع (عشائر – عائلات – طوائف – مؤثرين – مخاتير).

الريعيّة، التي تعتمد مداخيلها، على الأغلب، على التمويل الدولي الذي يقدّم المال بناء على شروط أمنية وإقتصادية وسياسية محددة.

الفساد، الفردانية، غياب المسؤولية، المسائلة، سياسة الإحتواء والإرتباط بالمحتل أو المستعمر والتساقط السريع بسبب إنعزالها عن المجتمع مما ينزع عنها الشرعية عند أي حدث مهم، والخضوع والخنوع للخارج والإستقواء الداخلي والغياب عند الأحداث الجوهرية والمفصلية بدءاً من ثورة 1936 إلى حرب غزة الأخيرة 2021 .

ولكن، بعد انتهاء كل حدث من هذه الأحداث، تعود هذه الطبقة لفرض سطوتها بوتيرة أشد مما كانت عليه، لتُثبت أهميتها للإستعمار في السيطرة على الوضع، وإخضاغ أي محاولة للمقاومة من طرف الشعب عبر جهاز أمني معقّد ومتخصّص ومتشعّب، وطابور من العملاء والمتطوعين والموظفين المتواجدين في محيط هذه الطبقة.

إنقلاب الصورة

ويبدو، أنّ النسخة الأخيرة من “الفلسطيني الجيد” التي وصلنا إليها، وهي نسخة أوسلو وما ترتّب عنها من إتفاقيات الذل والعار التي أُبرمت بإسم الشعب الفلسطيني زوراً وبُهتانا، وقدّمت الإصدار الأخير من صورة “الفلسطيني الجيد”، بعدما حوّلته الأداة الإستعمارية من ثائر فدائي مقاوم إلى مستسلم خانع متهاون يستقوي على شعبه، ويلاحق ويقمع المقاومين ويُصفّي الناشطين. ومن المعروف أنّ الكيان الصهيوني لم يعترف بشرعية منظمة التحرير إلا بعد أن اعترفت هي بشرعية الإحتلال على فلسطين، وبحقّ هذا الكيان في الوجود واتجهت لنبذ كل أشكال المقاومة ضده.

تعلو أصوات تأتي إلينا من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية التي تتحدث عن وصول السلطة الفلسطينية إلى طريق مسدود، وعن ظاهرة الفساد والمحسوبيات وقمع الحريات التي تمارسها أجهزتها الأمنية ورموز السلطة الفلسطينية، ما يفيد بفشل النسخة الأخيرة من “الفلسطيني الجيد”، وأنّ السبب الأساسي لفشل سلطة أوسلو هو أن الإدارة الدولية – الغربية – الإستعمارية أرادت أن تبني فلسطينياً على مقاس مشروعها الإستعماري ليكون “كلب حراسة” لمشروعها في المنطقة، فهو أليف عند صاحبه شرس على شعبه.

وبهذا، فإن الفشل نابع أصلاً من طبيعة مشروع أوسلو حيث أثبتت كل التجارب فشل كافة المحاولات لتطويع الشعب الفلسطيني وترويضه. كما سقطت كافة المراهنات على كيّ الوعي الفلسطيني بمرور الزمن، وأثبتت الأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين بؤس وعقم وتخلّف العقلية الصهيونية الفاشية حين أصرّت على مقولة أنّ “الكبار يموتون والصغار ينسون”.

لكنّ “الفلسطيني الجيد” هو المقاوم حتى آخر نقطة دماء في سبيل فلسطين وتحرير فلسطين.. كل فلسطين، وممارسة حقّه في تقرير مصيره على أرضه.

هو اللّاجئ، حاملاً مفتاح العودة في قلبه، واضعاً على أكتافه تاريخ مخيم قد احتضنه كما يحتضن الصبّار زهراته، وطفل يرمي دبابة عسكرية بحجر أو مولوتوف، ويصنع قنبلة يدوية من ابتسامة من كانوا على الدرب سائرين، هو حامي الزيتون والزعتر البرّي على مدى هذه الأرض الكبيرة.

*ناشط فلسطيني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من الواضح أن هذه القيم ظلت مجرد شعارات تُطبّق على شعوب دون غيرها، وعناوين تظهر وتختفي حسب الضرورة.

* على غرار تجربة حكومة فيشي في فرنسا وحكومة كفيشلينغ في النرويج خلال الاحتلال النّازي لأوروبا في الحرب العالمية الثانية 1939-1945.


وسوم :
, , , , , , , , , ,