هو الأقرب إلى الوطن مخيّم الرشيدية على مرمى بصرٍ ومعاناة

وفيق هوّاري – صمود:

يمكن وصفه بثالث أكبر مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، إذ تبلغ مساحته ٢٤٨،٤ دونما. إنّه أقرب المخيّمات إلى الوطن، يبعد ٢٣ كلم عن الحدود اللبنانية – الفلسطينية، ويقع على مسافة ٥ كلم من جنوبي مدينة صور الجنوبية.

يتألف المخيم من قسمين: القسم القديم الذي بنته فرنسا عام ١٩٣٦ لاستقبال اللاجئين الأرمن آنذاك، وتركه معظمهم متجهاً إلى العاصمة اللبنانية بيروت بعد حين. وبعد إنشاء وكالة الأونروا، استأجرته من الدولة اللبنانية لإسكان اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من أراضيهم وممتلكاتهم خصوصاً من بلدات: أم الفرج، سحماتا، علما، دير القاسي…

أما القسم الجديد، فقد أقامته الأونروا عام ١٩٦٣ لإيواء لاجئين كان معظمهم يقيم في ثكنة غورو في بعلبك.

كان لهذا المخيّم نصيب كبير من المعاناة والدمار خلال الإجتياحين الإسرائيليين عامي ١٩٧٨ و١٩٨٢، حيث شهد تهجيراً واسعاً لأهله خلال تلك الفترة. واليوم، يخضع مخيّم الرشيدية لإجراءات أمنية مشددة من قبل السلطة اللبنانية، على مدخله الوحيد، في حين تملك فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وخصوصاً حركة فتح السلطة داخل المخيم، بالإضافة إلى فصائل التحالف الفلسطيني.

بعد عام ١٩٤٨، أقام اللاجئون الفلسطينيون في الغرف والخيم التي تركها اللاجئون الأرمن، وبعد بناء القسم الجديد من المخيّم قَدِم إليه لاجئون من البقاع، ومن مخيّم البصّ وتجمّع القاسمية.

وبعد هزيمة حزيران/يونيو ١٩٦٧ بدأ الظهور المسلّح للفلسطينيين في مخيّم الرشيدية، وافتُتحت معسكرات التدريب للفدائيين آنذاك، وبعد عام ١٩٦٩ شهد المخيّم اعتداءاتٍ إسرائيلية من البرّ والبحر والجو. وخلال اجتياح ١٩٨٢ كان لأطفال المخيّم تجربة فريدة إذ قاوموا الاحتلال الإسرائيلي بشراسة، وأطلقت وسائل الإعلام عليهم اسم: أطفال الـ “آر بي جي“.

أرمني – فلسطيني

تحتضن أراضي المخيّم بُرك رأس العين لمياه الشفة، واثنتان منها في تلة الرشيدية وهي من أقدم عيون المياه على الساحل اللبناني. وتُشكّل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزئين أساسيين من صور القديمة، والتي سكنها أهالي صور لوجود المياه والأراضي الزراعية فيها، بينما كانت صور القديمة المعروفة حاليا، مكاناً للحكم والعبادة.

خلال الإنتداب الفرنسي عام ١٩٣٦، أنشأت فرنسا هذا المخيّم وكانت على تلة الرشيدية كنيستان للأرمن اللاجئين من المجازر في منطقة كيليكيا.

تقول إمرأة فلسطينية مُسنة: “بعد النكبة لجأنا إلى قرية مارون الراس، لكنّ السلطة اللبنانية نقلتنا إلى هذا المخيّم عام ١٩٥٠، وكان عبارة عن خيم وشوادر، لكنّنا بنينا جدراناً من طين وتراب لتثبيت الشوادر، وكانت الحمّامات مشتركة، حمّام واحد لكل ثمانية عائلات، ويبعد الحمّام نحو ٥٠ مترا ًعن الشوادر. وعندما حضرنا، كان هناك ٣١١ أسرة أرمنية، لكن مع مرور الوقت رحلوا إلى بيروت”.

وفي العام ١٩٦٣ بنت الأونروا القسم الجديد، وهو عبارة عن منازل يحوي كل منها ثلاث غرف، مع أسقف منخفضة، لكنّ معظم السكّان الجدد هدّموها وأعادوا البناء مع أسقف عالية.

عمل معظم أهالي المخيّم بالزراعة. وبعد عام ١٩٦٩، بدأوا بزراعة الأراضي العامة المحيطة بالمخيّم، واقتصرت الزراعة على الخُضار والحبوب من فاصولياء وخس وبقدونس وبندورة. في حين لم تسمح السلطة اللبنانية بزراعة الأشجار المثمرة بسبب أنّها أملاك عامة.

شهادات حيّة

يقول مسعد ظاهر، وهو من مواليد دير القاسي قضاء عكا، عام ١٩٣٤: “هربنا من دير القاسي في أيلول/سبتمبر ١٩٤٨، إلى منطقة عيتا الشعب، ومنها إلى البرج الشمالي، ثم نقلتنا الدولة اللبنانية إلى ثكنة غورو في بعلبك، واستقرينا هناك ١٥ عاما، كناّ ٢٠٠ لاجئ وصرنا ٥٠٠، لكنّ تفاقم الوضع الصحي دفع بالأونروا والدولة اللبنانية إلى إسكاننا في القسم الجديد من الرشيدية عام ١٩٦٣.

في البداية، عشنا في غرف لا تتجاوز مساحة الواحدة منها ٩ أمتار مربعة. ومع الوقت، صارت كل عائلة تبني منزلاً خاصاً بها وحسب إمكانياتها، لكنّ المشكلة الأساس كانت عدم وجود حمّامات خاصة.

وكنّا نعاني من أزمة الحصول على فرص عمل، لكنّ خدمات الأونروا كانت ممتازة خصوصاً الصحية منها، والمساعدات الغذائية أيضا، رغم أنّ هذه الخدمات بدأت بالتقلص بعد ذلك.”

ويوافقه لطفي عوض، من قرية فارة، على ذلك، ويضيف:” كنّا نعيش على المساعدات الغذائية والملابس التي كانت تُقدّمها الأونروا، لكنّ الآن لا شيء يُقدّم لنا”.

ووُلد خالد ذيب عام ١٩٥٠ في مخيّم الرشيدية، وهو من قرية أبو الفرج، قضاء عكا يتذكر أيام الطفولة والشباب، ويقول: “نحن محرومون من أبسط حقوق الإنسان، نزاول أعمالاّ شاقة جدا، كان الآباء يجهدون في البحث عن فرصة عمل، وإذا وُجدت، كانوا يحصلون على أجور متدنية. عملوا بالزراعة وأعمال البناء ونقل الرمول، ولا ننسى أنّ المرأة الفلسطينية كانت تعاون زوجها في كل الأعمال”.

ويضيف ذيب:” بعد دخول الثورة إلى المخيّم باشر عدد من الأهالي العمل في مجال التجارة وخصوصاً تجارة الفحم، وبدأ الشباب العمل في مؤسسات إقتصادية مختلفة خارج المخيم”.

ديموغرافيا المخيم

يبلغ عدد سكان المخيم المُسجلين لدى الأونروا، نحو ٣٣ ألف نسمة، لكن عددهم الحالي لا يتجاوز الـ٢٠ ألف نسمة.

تنتمي عائلات المخيّم إلى قرى شمال فلسطين، أهمها: نحف، أم الفرج، الشيخ داوود، فارة ، سحماتا، دير القاسي، شعب، كويكات، علما، الغابسية وغيرها.

وكما في باقي المخيّمات، تجمّع أهالي كل قرية في حي من أحياء المخيّم وأطلقوا عليه اسم قريتهم، وجرت العادة أن يزرعوا شجرة تين ودالية عنب في حاكورة المنزل.

خلال الاجتياحات الإسرائيلية اضطُّر قسم من الأهالي إلى ترك المخيّم، واستطاع قسم آخر السفر إلى خارج لبنان، ويمكن القول أنّ نسبة الأطفال تصل إلى ٣٠%، ونسبة الراشدين ما بين ١٨ و٦٠ عاماً نحو ٤٠%، وفوق الـ٦٠ عاماً نحو ٣٠%.

ويعيش حالياً في الرشيدية نحو ٢٠٠ أسرة لجأت من سورية، بينهم ٥٦٠ فلسطيني و٣٢٩ سوري، حسب إحصاءات صادرة عن لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني.

أماكن العبادات

حاليا، يحوي المخيّم أربعة مساجد، أولها مسجد الإيمان الذي بُني في سبعينيات القرن الماضي، تعرّض للقصف عام ١٩٨٢، وأُعيد بناؤه، وفي عام ٢٠٠٦ تعرّض لقذائف إسرائيلية وأُصيب بتصدعات وتشققات، ثم جُمعت التبرعات وتمّ ترميمه.

ويضم المخيّم أحد أهم المعالم التاريخية، وهو كنيسة الأرمن، التي بُنيت على تلة مُشرفة على سهول صور المحيطة بمخيّم الرشيدية. اعتُمد في البناء على عقود حجرية مرتفعة، يعلوها برج عليه جرس، وتعاني الكنيسة من تصدّعات بسبب حريق داخلي وبعد تعرّضها لقصف إسرائيلي أكثر من مرة. واعتقد البعض أنّ منطقة الكنيسة تحوي آثاراً فينيقية ورومانية، وإلى جانبها مقبرة ما زالت شواهد قبورها بادية للعيان.

صرْف غير صُحّي

لا يوجد في مخيّم الرشيدية شبكة للصرف الصحي، ويعمد الأهالي إلى استخدام حُفر صحية، ما أدى إلى كوارث بيئية تتعلق بمياه الشفه والينابيع والتربة المستخدمة بالزراعة. إلى جانب ذلك، يشهد المخيّم من حين إلى آخر تكاثر الذباب وانتشار الأمراض المعدية.

أما مياه الشرب، فهناك خزانان ويدفع الأهالي بدل اشتراك للمياه سنويا، لكن المياه غير صالحة للشرب بسبب سوء شبكة التوزيع. وعلى الرغم من وجود عدد من الينابيع وبُرك المياه، فإنّ المخيّم يعاني من أزمة مياه الشرب وخصوصاً في فصل الصيف، ويعود ذلك إلى سوء تنفيذ شبكات المياه من قِبل مُتعهّدي الأونروا.

خلال عام ٢٠١٠، استُحدثت شبكة جديدة للكهرباء، لكنّ المحولات الكهربائية تتعرض للأعطال باستمرار وخاصة في فصل الشتاء.

وتشهد الطرقات الداخلية في المخيّم الكثير من الحُفر التي تتحول إلى مستنقعات مياه في الشتاء، ومناطق غبار في الصيف.

خلال الاجتياح الإسرائيلي، تعرّض نحو ٦٠٠ منزل إلى تدمير كلي أو جزئي، وقدّمت الأونروا مساعدات مالية لإعادة الإعمار. وبعد حرب المخيّمات، طبّقت السلطة اللبنانية إجراءات مشددة منعت من خلالها إدخال مواد البناء إلا بعد الحصول على إذن رسمي، ويواجه من يطلبه صعوبات جمّة. ويدور الحديث أنّ بعض النافذين يحصلون على أذونات بإدخال مواد بناء ويبيعونها للأهالي بأسعار جنونية.

ولا تقتصر هذه الصعوبات على الأهالي، بالحصول على إذن فحسب، بل إنّ الأونروا تواجه نفس المشكلة وخير مثال على ذلك أنّها ما زالت تطلب إذناً لبناء سدّ بحري يحمي المساكن من انهيار بسبب الموج، أو حتى إعادة بناء السدّ القديم الذي بُني في ستينيات القرن الماضي.

واليوم، تتفاقم مشاكل المساكن، فهناك عدد غير صالح للسكن أو معرّض للسقوط، منها نحو ٣٠ منزلاً أسقفها من الزينكو، وجدرانها من الباطون، ونحو ٥٠ منزلاً تحوي غرفاً من التنك، في حين يعاني نحو ٦٠٠ منزلاً من تشققات وتصدعات.

والمقبرة لم تعد تتسع للدفن والعمل جارٍ لتشييد مقبرة جديدة.

العمل بدل التعلّم

في المخيّم أربع مدارس للأونروا، اثنتان للتعليم الإبتدائي، وهما: مدرسة عين العسل للصبيان وفيها ١٠٤٠ تلميذا، ومدرسة القادسية للبنات وفيها ١٠١١ تلميذة. أما مدرسة النقب المتوسطة للصبيان والبنات، يدرس فيها ٥٠٦ تلميذاً وتلميذة. وهناك ثانوية الأقصى التي تضمّ نحو ٦٠٠ تلميذا وتلميذة.

وفي الرشيدية أيضا، سبع رِياض للأطفال تضمّ أكثر من ٧٠٠ طفلاً وطفلة، وهي رِياض تابعة لمؤسسات وجمعيات أهلية، تتنوّع خدماتها بين إجتماعية وثقافية وتعليمية، وينشط معظم هذه المؤسسات الأهلية في تعزيز الهوية الفلسطينية وحِفظ التراث الفلسطيني ونقله للأجيال الصغيرة.

يعاني الواقع التعليمي من تراجع ملحوظ، وهذا ما تظهره نتائج الإمتحانات الرسمية التي لم تتجاوز ٥٠% خلال السنوات الأخيرة، لكنّ نسبة النجاح عادت إلى ارتفاع خلال العامين الماضيين. ويشهد المخيّم ارتفاعاً بنسبة التسرب المدرسي، والتوجه إلى سوق العمل.

البطالة بدل العمالة

يعاني أهالي مخيّم الرشيدية من غياب فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة. وهذا الوضع لا يقتصر على الشباب فقط بل يطال الجميع، حيث لا مؤسسات إقتصادية ولا مُحترَفات تؤمّن فرص عمل، يبقى القطاع الزراعي الذي يشهد تقلصاً في المساحات المزروعة بالحمضيات، وازدياداً في المساحات المزروعة بالموز التي لا تتطلب يداً عاملة كثيرة. كما أنّ العمل الزراعي هو عمل موسمي.

وتستوعب وكالة الأونروا عدداً محدداً من العاملين، كذلك بعض المؤسسات الأهلية.

أظهرت نتائج المسح الإجتماعي، الذي أجرته الأونروا بالتعاون مع الجامعة الأمريكية مؤخرا، وصول نسبة البطالة إلى ٧٠%. وهذا ما دفع العديد من اللاجئين الفلسطينيين إلى الهجرة غير القانونية، بعضهم وصل إلى أوروبا والبعض الآخر عاد إلى لبنان بعد أن خسر كل مُدّخراته.

أما الأونروا، لم تعد تؤمّن عملاً يومياً إلا في الحالات القصوى، ولا تتعاقد مع موظفين جُدد إلا في الحالات الضرورية، وأصبح سن التقاعد ٦٠ عاماً بدلاً من ٦٢ عاما، وفُتح الباب أمام الإستقالة المبكرة للموظفين.

النفايات والنظافة

لا يوجد في المخيم عدد كاف من حاويات النفايات، والتي هي أصلا قديمة وبحاجة إلى صيانة وتصحيح، بعضها قريب من المنازل والمدارس والمراكز الصحية. ويجمع عمال الأونروا النفايات يوميا.

الصحة والإستشفاء

في المخيّم، مستشفى واحد هو ” بلسم” تابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، يستقبل مرضى المخيّم والمخيّمات والتجمعات القريبة، لكنّه يشكو نقصاً في الجسم الطبي والمعدات الطبية والأدوية. أما عيادة الأونروا فتستقبل نحو ٢٠٠ مريض يوميا، وفيها طبيبان فقط. ويتوجه عدد من مرضى المخيّم إلى مستشفيات خاصة في منطقة صور متعاقدة مع الوكالة، ويضطر الأهالي إلى دفع فروقات مالية لإدارات المستشفيات.

وفي المخيّم أيضا، مستوصف واحد هو “القدس الطبي” الذي يقدّم خدمات طبية ويؤمّن الأدوية بأسعار مُخفّضة.

وهناك، تسع عيادات خاصة ذات اختصاصات متنوعة، ومختبران طبيان يُجريان فحوصات بسيطة، وتسع صيدليات. ويمكن القول، أنّ الأمراض الأكثر انتشارا هي: السُكري، أمراض القلب، ضغط الدم، السرطان، الأعصاب، الروماتيزم والجلد.

المؤسسات الأهلية

أبرز المؤسسات في المخيّم هي مؤسسة أبو جهاد الوزير لتأهيل المُعوقين، يستفيد من خدماتها نحو ١٣٣٠ شخصا. ويُلاحظ أنّ هناك نحو ٤٥٠ مُعوقاً لا يحصلون على الرعاية اللازمة.

وهناك أيضا، بيت أطفال الصمود، الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، مؤسسة الشهيد غسان كنفاني، جمعية نبع، أطفال الغد، جمعية النجدة الإجتماعية، مركز الأنشطة النسائية، روضة الهدى وهيئة الأعمال الخيرية.

يحلم أهالي مخيّم الرشيدية بالعودة إلى قُراهم المحتلة التي لا تبعد كثيراً عن مكان إقامتهم الحالية، لكنّهم لا يستطيعون الإقتراب من حدود فلسطينهم والنظر إلى بلداتهم المسلوبة.