دور مشبوه وفراغ سياسي في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا
ديسمبر 20, 2021 9:50 صخاص – صمود:
في الحديث عن العلاقات الفلسطينية – السورية نحتاج إلى بحث كامل في هذه العلاقة المُعقدة والمُتراكمة تاريخياً وجغرافيا.
فعلاقة الأخوة في الدم قديمة ومُتجذّرة، مرّت بتجارب كفاحية عديدة لعلّ أبرزها تجربة شيخ فلسطين، الثائر السوري عزّ الدين القسّام الذي لا تزال ذكراه تؤرق العدو في كل مناسبة. فكما قاتل السوري في فلسطين في العام 1948، متطوعين وقيادات، قاتل الفلسطيني إلى جانب السوري في الـ1973 على جبهة الجولان، قبل أن يتورط الجانبان في صراع الأخوة في لبنان من تلّ الزعتر إلى حصار المخيّمات.
وهنا لا يمكن الخوض في الحديث عن العلاقات الفلسطينية – السورية دون الإشارة إلى علاقة دمشق بتنظيم فلسطيني مٌحدد هو حركة التحرير الفلسطيني “فتح” التي كانت ولا تزال تسيطر بشكل رئيسي على مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والتي أنتجت بعد تجربة كفاحية طويلة ومريرة طيلة عقود، “السلطة الوطنية الفلسطينية” في أعقاب إتفاق أوسلو 1993.
العلاقة المتأرجحة بين فتح وسوريا
إتّسمت العلاقة بين سوريا وفتح، تاريخيا، بحالات من المدّ والجزر، وغلب عليها الكثير من التوتر الذي وصل تارة إلى الصدام وتارة أخرى إلى القطيعة وبشكل خاص بعد منتصف سبعينات القرن الماضي. وعموما، فقد تصاعد دور دمشق بعد حرب فلسطين 1948 إقليمياً وكانت خلال سعيها للعب دور على المستوى الدولي ترى أنّه لا بد لها أن تكون الجهة المسيطرة قدر الإمكان على ورقة مهمة كالورقة الفلسطينية، لا سيما وأنّها تحتضن أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين وتحشد قواتها العسكرية على الحدود مع تل أبيب -حيث استمرت حالة اللاحرب/اللاسلم طيلة عقود- إضافة إلى وقوع الجولان السوري تحت الاحتلال الإسرائيلي.
كان التوتر بين سوريا وفتح يشتدّ ويتصاعد ليصل إلى الذُّروة ثم ينتهي بحالة من الإنفراج خاصة في ملف لبنان، التي سعت سوريا من خلاله أيضاً للسيطرة على المخيّمات الفلسطينية هناك وإخراج فتح منها (أحداث طرابلس – حصار المخيّمات) والتي لجأت دمشق على إثرها لدعم إنشقاق قيادات من فتح عن عرفات في ما عُرف بـ”فتح الانتفاضة” إلى جانب دعمها في الأساس -أي دمشق- لتنظيم الصاعقة الفلسطيني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، وحظر حركة فتح في سوريا عام 1987 واعتقال أغلب كوادرها في سوريا ولبنان والإستيلاء على معسكراتها ومكاتبها وأسلحتها وحتى أملاكها العقارية من قِبل تنظيم فتح الإنتفاضة، وبتسهيل من الدولة السورية. وبهذا استمر حظر أي نشاط بشكل رسمي/علني لفتح داخل سوريا.
حاولت فتح حينها العودة إلى العمل السري واللجوء إلى مؤسسات شعبية متل الكشاف والشبيبة كغطاء لعملها وصولاً إلى العام 2010، عندما سُمح للحركة بالعودة الى سوريا بشكل علني والإفراج عن أغلب مُعتقليها في السجون السورية في وقت سابق، مع الإبقاء على عدد من الإجراءات الأمنية الصارمة بحقّهم مثل منع السفر وموافقات العمل وغيره.
إنقلاب الصورة
دعمت سوريا أغلب فصائل التحالف التي عارضت أوسلو واحتضنتها وعلى رأسها حماس التي كانت من أشد المعارضين لفتح وأوسلو، وبعد أن اتّخذت حماس موقفاً معارضاً للدولة السورية. وعلى إثر انسحاب قيادتها من دمشق باشرت فتح بملئ الفراغ من خلال مبعوث الرئيس أبو مازن الشخصي أنور عبد الهادي، ومن خلال الوفود التي زارت دمشق على عدة مراحل (عزام الأحمد – مجدلاوي) أو عبر العلاقات الأمنية التي لعبها ماجد فرج في سوريا والذي برز إسمه في العديد من الملفات التي تتعلق بمخيّم اليرموك وغيره.
إلا أنّ جملة من التطورات السريعة شهدتها السنه الحالية، بدءاً من تسلّم سميرالرفاعي لمنصب سفير فلسطين في دمشق خلفاً للسفير السابق محمد الخالدي الذي وافته المنية، بالتزامن مع إعتراف الحكومة السورية بشرعية السلطة الفلسطينية واعتماد الرفاعي كسفير لدولة فلسطين. وبذلك، إستطاعت السفارة إصدار جوازات سلطة فلسطينية مما أدى لتهافت اللاجئين للحصول على هذه الجوازات، التي منحتها السفارة بتسهيلات كبيرة في محاولات منها لإعطاء شرعية أكبر للسلطة الفلسطينية وحركة فتح بين اللاجئين وخاصة في سوريا الذين عُرفوا -شأنهم شأن الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني- برفضهم القاطع لـ”أوسلو” ومسار التنسيق الأمني، واعتباره طعنة في صميم القضية الفلسطينية وخيانة لتضحيات الشعب الفلسطيني وتنازلاً عن حقّ اللاجئين في العودة.
وجدت السلطة الملف الفلسطيني على الساحة في سوريا، في حالة من الفراغ وخاصة بعد الضعف والتهميش الذي تعرّض له مجتمع اللاجئين هناك وعدم قدرة فصائل التحالف على تحمّل مسؤولياتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين، يأتي كل ذلك في ظل الظروف الإقتصادية والإجتماعية والصحية الصعبة التي يمرّ بها اللاجئون الفلسطينيون في سوريا، حيث يعاني أكثر من 90% منهم من الفقر الشديد، في ما لا يزال مخيّم اليرموك بعيداً عن إعادة الإعمار وعودة اللاجئين إليه، مما يُثقل كاهلهم بتحمّل نفقات الإيجار المرتفعة في دمشق وضواحيها في ظل إنهيار العملة السورية مقابل الدولار، وانخفاض مستويات الدخل وتفاقم أزمة التمويل التي تتعرض لها الأونروا بسبب الضغط الدولي الذي تقوده واشنطن وتل أبيب لإنهائها. وفي ظل تلك كل الظروف، تأتي زيارة رجل الاعمال الفلسطيني منيب المصري تحت ذريعة طرح مبادرة وطنية لإنهاء الإنقسام الفلسطيني عبر عدة لقاءات تمّ عقدها مع الفصائل الفلسطينية في دمشق.
الرأسمالي الكومبرادوري
منيب المصري رجل أعمال فلسطيني يتمتّع بسلطة إقتصادية واسعة في الداخل الفلسطيني وعدة دول عربية وأجنبية. وهو يمثّل بوضوح ظاهرة “الكومبرادور” الذي ترتبط مصالحه بمصالح الرأسمال الغربي ومشروع الكيان الصهيوني في المنطقة منذ نشأته، حيث عمل على إقامة علاقات واسعة مع المجتمع الصهيوني من سياسيين وإقتصاديين وضباط في الجيش الإسرائيلي، واتّخذ من قصره الذي بناه بمبالغ خيالية خلال إنتفاضة الأقصى، مقراً لترتيب اللقاءات والصفقات بين الجانب الصهيوني ورجال أعمال وسياسيين فلسطينيين وعربا.
كل هذا، ويمتد نفوذ هذه الشخصية الى العديد من المؤسسات والمنتديات والشركات التي تدفع ملايين الدولارات للدور السياسي المشبوه الذي تمارسه هذه الشخصيات، فهو أحد أهم المُمولين لمؤسسات مثل “التعاون” و”الدراسات الفلسطينية” و”منتدى فلسطين”.
المبادرة المُفخخة
وقد تضمّنت مبادرة منيب المصري في دمشق البنود الآتية:
الشراكة الوطنية الكاملة التي تتطلب بدء تشكيل حكومة وطنية وإنتخابات تشريعية ورئاسية، ثم تشكيل مجلس وطني بالإنتخاب والتوافق وملف الإنتخابات في القدس والحريات، والتأكيد على أهمية الرعاية المصرية والدعم الأردني. تأتي خطورة هذه المبادرة من إشتراطات فتح على كل من يرغب في المشاركة، وخاصة حركة حماس، الإعتراف بقرارات الرباعية الدولية وبكافة إلتزامات منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي الإعتراف بشرعية أوسلو وحقّ إسرائيل في الوجود ونبذ العنف.
كما أكدت على ضرورة إعطاء الفصائل تفويضاً للرئيس محمود عباس، بالتفاوض بإسم الشعب الفلسطيني وضرورة حلّ المليشيات الفصائلية. وهنا تكمن خطورة هذه المبادرة المشبوهة التي تتلخص بإبتزاز المقاومة ودفعها لنبذ العنف والإعتراف بالكيان وشرعيته، وإعتماد الشرعية الدولية والقانون الدولي كوسيلة أساسية (مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة).
وليس مُستغرباً ما تقدّم ذكره، إذا نظرنا تاريخياً إلى ارتباط الطبقة البرجوازية الفلسطينية بالمشروع الصهيوني الإمبريالي وبإتفاق أوسلو كأحد تجليات السيطرة ودخول حظيرة الإمبريالية من أضيق أبوابها، إلا أنّه من المستغرب أن يتم تسويق هذه المبادرة في سوريا، التي كانت تحتضن مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين وفصائل التحالف التي وقفت في وجه “أوسلو” وكل محاولات التصفية التي تعرّضت لها القضية الفلسطينية. ويبدو أنّ الوضع الإقتصادي وانعدام الأفق السياسي وضعف حالة الفصائل الفلسطينية في دمشق، تنظيمياً وعسكرياً وسياسيا، وفراغ الساحة السياسية في سوريا في ظل العزلة الإقليمية والدولية، كل هذا أدى بشكل أو بآخر إلى قبول هذه المبادرة والتسويق لها، وبالذات أنّها تأتي من شخصية متمكّنة إقتصاديا.
الفصائل لا تمانع
وما يثير الدهشة، أن تعود الفصائل وترد بالموافقة على أغلب بنود هذه المبادرة بطريقة توحي بالتلاعب على الكلمات، كنوع من أنواع الرضوخ لمطالب رئيس فتح والسلطة الفلسطينية، بحسب المقترح الصادر عن الفصائل الفلسطينية في دمشق والذي تجاهل المقاومة المسلحة كوسيلة أساسية للكفاح الفلسطيني في سبيل تحقيق أهدافه، وتلاعب على هذه الفقرة (بتأييد حقّ الشعب الفلسطيني في ممارسه كافة أشكال المقاومة في الدفاع عن أرضه وحقوقه المشروعة، والإشادة بجهود مقاضاة بريطانيا بشأن وعد بلفور وهي المبادرة التي يدعمها منيب المصري) ليعود إقتراح الفصائل ويؤكد على مركزية منظمة التحرير الفلسطينية وضرورة تفعيل الجهود لإعادة بنائها، وبناء إستراتيجية نضالية مُسترشدة بخطاب الرئيس محمود عباس الأخير في هيئة الأمم المتحدة بشأن عدم الإلتزام بالإتفاقيات الموقعة.
ومن الملاحظ أنّ الفصائل الفلسطينية التي شاركت في هذه الورقة (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – الصاعقة – الجبهة الديمقراطية – القيادة العامة) مع تحفظ الجهاد الإسلامي. ومن المعروف أنّ الإبتزاز الذي تمارسه هذه السلطة على هذه الفصائل يتعلق بالشق المادي أولا، والذي يتضمن عودة صرف ميزانيات شهرية لهذه الفصائل مقابل عودتها لمنظمة التحرير والإلتزام بالتزاماتها.
وفي ظل الصمت والتكتم التي يتمّ من خلاله تمرير هذه المبادرة، يبقى السؤال العالق في الذهن وفي ظل كل هذه المخاطر التي تحوم حول القضية الفلسطينية، هل تستطيع سلطة أوسلو والتنسيق الأمني تمرير مشروعها على المخيّمات الفلسطينية في سوريا بشكل مجاني وبدون أي ردة فعل؟؟ وهل ستنجح سياسة شراء الذِّمم وإسكات الأفواه عبر فُتات المخصصات المالية والميزانيات المشبوهة التي تتحكم بها سلطة أوسلو والتنسيق الأمني، وفي ظل كل هذه المخاطر التي تحوم حول القضية الفلسطينية دون أي ردة فعل من اللاجئين الفلسطينيين، وهل ترضخ المخيّمات التي قدمت بحوراً من الدماء والتضحيات على إمتداد مسيرة المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني، وصمدت في مواجهة البؤس حين تُركت وحيدة لتواجه مصيرها في هذه الحرب المريرة التي أكلت الأخضر واليابس وأدخلت الفلسطينيين في دوامة القهر واللجوء واليأس والخوف على الحياة؟
وسوم :
أبو مازن, أنور عبد الهادي, إتفاقية أوسلو, التنسيق الأمني, العلاقات الفلسطينية - السورية, الفصائل الفلسطينية, المجلس الوطني الفلسطيني, المخيمات الفلسطينية في سوريا, جيش الكيان الصهيوني, صمود, عز الدين القسام, فتح, كومبرادور, مؤسسة التعاون, مؤسسة الدراسات الفلسطينية, منتدى فلسطين, منيب المصري