المساجد والجوامع: موائل النكبة وزمن الهجرات الطويلة

التصنيفات : |
يناير 9, 2022 9:28 ص

*علي بدوان

كانت مساجد وجوامع سوريا، ومساجد دمشق بشكلٍ رئيسي، موئلاً لمئات العائلات الفلسطينية، التي قذفت بها ظروف النكبة، وعمليات التهجير، و”التطهير” العرقي، والترانسفير، التي قامت بها العصابات الصهيونية، وقوات الإنتداب البريطاني التي سهّلت تلك الممارسات الإجلائية التهجيرية بحقّ أبناء فلسطين قبل إنسحابها بوقتٍ قصير من فلسطين، وتسليمها البلاد للحركة الصهيونية على طبقٍ من ذهب، ولعصاباتها المسلحة، خاصة (الهاجاناه) التي تحوّلت لجيش الاحتلال المُسمى بــ”جيش الدفاع”، قبل أن يُسمّى بـــ”الجيش الإسرئيلي”. 

أول اللجوء مع الحقوق

دخل إلى سوريا نحو (90) ألف لاجئ فلسطيني عام 1948، مُعظمهم من (لواء الجليل)، وتحديداً من مدن وقرى الشمال، وخاصة قرى مدينة صفد ومحيطها، وسهل الحولة، وقرى وبلدات غور فلسطين الشمالي، ومدن الناصرة، وطبريا وعكا وبيسان… وحيفا، والعدد الأقل من وسط فلسطين من اللد والرملة ويافا، وهؤلاء الفلسطينيون ممن ينطبق عليهم المرسوم رقم (260) تاريخ (10/7/1956) الذي يساويهم مع المواطن السوري من حيث المواطنة بحدود جيدة، ولا نقول كاملة.

ووصلت الدفعة الثانية من اللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا بعد العام 1956، قادمين من التجمعات الفلسطينية التي لجأت إلى الأراضي اللبنانية، ولحق بهذه الدفعة مئات من الفلسطينيين الذين طُردوا من المناطق المنزوعة السلاح على الحدود الفلسطينية ــــــ السورية وبالتحديد على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا، وبعد تجفيف بحيرة الحولة، وتحديداً بين الأعوام 1951 و1958، وهؤلاء جاءوا من قرى منصورة الخيط، يردة، كراد الغنامة، كراد البقارة، السمرة، النقيب، التوافيق، كفر حارب، جسر المجامع، حسر بنات يعقوب، ومنطقة غرب بلدتي الحمة والبطيحة، وأقاموا في منطقة الجولان ثم لجأوا ثانية بعد عدوان حزيران/يونيو 1967 الى مناطق دمشق ودرعا.

من لبنان إلى مساجد سوريا

ووفدت إلى سوريا دفعات جديدة من الفلسطينيين بعد عامي 1970 و1971 مع تمركز فصائل المقاومة الفلسطينية فوق الأراضي اللبنانية والسورية، ولم يتمّ تسجيلهم في سجلات اللاجئين إلى سوريا، إلا بعد أعوامٍ متأخرة، وكل لاجئ فلسطيني في تلك الدفعات له حقّ الإقامة فقط.

أقام اللاجئون الفلسطينيون في سوريا بعد وصولهم إلى الأراضي السورية عام 1948، أي الدفعة الأساسية والأولى منهم، في مواقع وتجمعات ومخيّمات تركزت في منطقة دمشق وباقي المدن السورية. وأمضى بعضهم سنوات داخل ثكنات الجيش الفرنسي الذي كان لتوّه غادر سوريا بعد إستقلالها (مخيّمي النيرب وحمص)، في ما استقر آخرون داخل المنشآت الحكومية والجوامع والمساجد الكثيرة المنتشرة في دمشق.

فلم تجد تلك العائلات موئلاً ومقاما، مؤقتاً ومناسباً لها، سوى المساجد والجوامع في دمشق القديمة والعديد من الأحياء العريقة والأسواق والخانات والمساجد والكنائس والمدارس والشوارع المرصوفة، في إقامة، امتدت لنحو من أربع إلى خمس سنوات، قبل بناء مخيّم اليرموك صيف العام 1954.

إذا، تمّت الإقامة الأساسية خلال سنوات النكبة الأولى في مساجد وجوامع دمشق للغالبية من لاجيء فلسطين في سوريا، بين أعوام 1948 ــــ 1954. خاصة المساجد في مناطق الشاغور والميدان والصالحية، والمناطق المتفرّعة منها والتابعة لها كأحياء: القنوات، القيميرية، العمارة البرانية، العمارة الجوانية، مساجد شارع الملك فيصل، المناخلية، العاقبية، منطقة السبع طوالع، مساجد الأسواق المختلفة كسوق باب الجابية، سوق العتيق، سوق الذراع، ساروجة، الحريقة، سوق العطارين، البزورية، سوق المسكية، العصرونية، القباقبية ومدحت باشا.

لكنّ الزخم الأساسي من لاجئي فلسطين، أقام في المساجد في القديمة في أحياء: الميدان ومنها جامع الرفاعي، جامع منجك، جامع النقشبندي وجامع باب مُصلّى… ومساجد حي الأمين (حارة اليهود)… وصولاً إلى القابون برزة، ركن الدين، زقاق الجن، جوبر، القدم، كفر سوسة، دوما، دُمّر والمزة (منطقة الحوش)…

من الجوامع إلى اليرموك

إنّ قيام الناس بتحسين أوضاعهم من خلال العمل وشقّ دروبه، والسعي لشراء منازل ولو كانت متواضعة، في أكثر من مكان في دمشق، ساهم بالإنتهاء التدريجي من السكن في المساجد والجوامع في دمشق. مع أنّ تلك الأيام ـــ أيام وأعوام ـــ الإقامة في المساجد والجوامع للاجيء فلسطين في دمشق، ستبقى مرسومة،  ومحفورة في الذاكرة الجمعية لأبناء فلسطين الذين لجأوا إلى سوريا عام النكبة، ومنهم عائلة كاتب هذه السطور التي أقامت ومعها عدة عائلات حيفاوية، في (جامع الصابونية)، في حي الشاغور البراني (قرب باب الجابية). ولمدة خمس سنوات، إنتقلت بعدها لاستلام قطعة أرض منحتها الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سوريا، وبالتعاون مع وكالة الأونروا لكل عائلة فلسطينية لاجئة، وبواقع (24) مترا، مع مساعدة بناء متواضعة. مع قيام الوكالة بتوزيع المؤن، وخاصة الطحين وحليب الأطفال لمختلف العائلات.

إنّ ذاكرة المساجد والجوامع والإقامة بها لمدة تقترب من خمس سنوات للاجيء فلسطين في دمشق، لا يمكن أن تُمحى، أو تُخدش، تحت وطأة عامل الزمن، وحالة الحت في الذاكرة التي قد تشيخ مع تقدم العمر. فوالدتي (التي عمّرت 96 عاما)، ووالدي وأشقائي الأربعة الأطفال (في حينها) وهم من مواليد فلسطين، بقيت مع والدي، وحتى لحظاتها الأخيرة، وهي تسلسل سيرة الجامع، والإقامة به، وعثرات اللجوء والنكبة في بداياتها.

تاريخ حي لن يموت، وفلسطين لن تسقط من الذاكرة، بل ستبقى في الذاكرة الحية لعموم أنباء فلسطين، بعيدة عن صدأ الذاكرة، حتى في ظل الظروف الصعبة، سنوات النكبة وذُل الهجرات الطويلة القسرية.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,