الدكتور عبد الستّار قاسم: المفكّر الحداثي وإضطّهاد السلطة

التصنيفات : |
أبريل 6, 2022 7:58 ص

*فاطمة شاهين

كيف يمكن للفكر أن يحرّك أجهزة أمنية بعدّها وعديدها؟ كيف يمكن لموقف يتّخذه إنسان، أن يسلّط عليه الغضب والملاحقة والإعتقال وتشويه السمعة؟ وكيف يكون الثبات بالموقف والقتال بالعلم والكلمة في مواجهة محاولات الإغتيال المادي والمعنوي؟ ربما هي أسئلة فضفاضة، أو يُخيَّل أنّها تحمل في طيّاتها إجابات بديهية، عن العقل الذي يدير كل شيء في هذا العالم حتى الترسانات العسكرية، والتي تتحول إلى خُردة إذا لم يشغّلها عقلُ أحد. ولكن عند الحديث عن الراحل، المفكر الأكاديمي الدكتور عبد الستّار قاسم، سنجد إجابات من نوع آخر، من النوع الفاعل والعملي.

في العام 1948 قام الكيان الصهيوني زوراً على أرض فلسطين من عمق احتلال أسموه “دولة إسرائيل”، وفي طولكرم من العام نفسه، وُلِد الدكتور عبد الستّار قاسم. كثيرون هم من وُلدوا في هذا العام، وأن تولد بالتزامن مع حدث جلل لا يعني بالضرورة أن تحمل شيئاً منه، إلا أنّ المتتبّع لسيرة الدكتور عبد الستّار، سيجد أنّ فعل ولادته في هذا العام بالذات، كان ردّاً خفيّا، فقد وُلد عقل عاش حياته غير معترف بكيان غاصب، ومحارب لكل التسويات التي ترغمه على قبول وجوده.

كونه أكاديمي، فذلك لأن الدرس والتدريس كانا محور حياته، درس العلوم السياسية ونال فيها البكالوريوس من الجامعة الأمريكية في القاهرة، والماجيستير من جامعة ولاية كنساس الأمريكية، ودرس كذلك الإقتصاد السياسي، في جامعة ميزوري الأمريكية حيث نال فيه شهادة الماجيستير، كما عمل أستاذاً في الجامعة الأردنية وجامعة بيرزيت وجامعة القدس، وبقي أستاذاً في العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية حتى تقاعده في العام 2013. ولا بدّ لكل هذه الحياة العلمية، وعشرات الأبحاث ومئات المقالات، والتي استحقّ عنها جائزة عبد الحميد شومان في مجال العلوم السياسية في العام 1984، أن تجعل الفكر في حياة الدكتور قاسم، أولوية تستحق رفع رايتها.

“من المهم أن يخرجوا من دائرة الفقه إلى دائرة الفكر؛ من دائرة الحلال والحرام إلى دائرة الحقّ والباطل. لا يجوز أن تبقى الحرية في الإسلام، على سبيل المثال،  بدون تعريف، ولا مسألة الإلتزام ولا الصالح العام”.

إنّه المتخصّص في الفكر الإسلامي، فحين كتب عن الإسلام كَتَبه من وجهة نظر الفكر، لا الفقه، لقد كتب “المرأة في الفكر الإسلامي”، و”حرية الفرد والجماعة في الإسلام”. وفي مقالة له يقول: “ركّز أغلب فقهاء المسلمين على الإجتهادات في مختلف تفاصيل الحياة بحيث حوّلوا الدين الإسلامي إلى كم فقهي هائل على حساب البعد الفكري. غابت الأبعاد الفكرية وغاب المفكرون المسلمون إلى حد بعيد بسبب مقاومة الفقهاء للقضايا الفكرية”(1).

كما يشرح أهمية اللجوء للفكر على اعتبار أنّه سبيل لفهم الواقع والسير في ركب هذه التغييرات التي تطرأ على البشرية بشكل مستمر، فيضيف في المقالة نفسها والتي تحمل عنوان “مسلمون مأزومون وليس الإسلام” قوله: “من المنطقي ومن التفكير العلمي السليم أن ينظر المرء إلى واقعه ويفكر في أساليب ووسائل التغيير لكي يحافظ على نفسه وعلى مسيرته نحو الأمام”، ولذا نجده يطالب بالتجديد في مقدمة كتابه “الحرية والتحررية والإلتزام في القرآن”، حين يقول: “إنّه من الضروري والحيوي أن يقوم علماء المسلمين ومفكروهم بالتجديد والخروج من قيد البحث في تفاصيل الأمور الفقهية، أو قضايا الحلال والحرام إذا أرادوا للإسلام أن ينافس فكرياً على الصعيد العالمي. من المهم أن يخرجوا من دائرة الفقه إلى دائرة الفكر؛ من دائرة الحلال والحرام إلى دائرة الحقّ والباطل. لا يجوز أن تبقى الحرية في الإسلام، على سبيل المثال،  بدون تعريف، ولا مسألة الإلتزام ولا الصالح العام”(2).

في معنى الحرية

أمّا إذا أردنا أن نضع عنواناً يتحرّك ضمن مساحته فكر الدكتور قاسم وآراؤه في مختلف القضايا، فلن نجد أكثر شمولية من الحرية، لأنّ الحرية التي ينادي بها ليست مقرونة فقط بإنهاء الاحتلال، لقد كان يتحدث عن الحرية في أدق تفاصيلها، في كونها تنبع أساساً من ذهنية القادة والشعوب، وإنهاء الاحتلال يصبح حتمياً إثر ذلك. ها هو في مقالة له(3)، يتناول قرار الولايات المتحدة الأمريكية قطع الأموال عن السلطة الفلسطينية والأونروا في العام 2018، فيقول: “بدل التذمر من الإجراءات الأمريكية، المفروض أن يتعلم الفلسطينيون وكل العرب أنّ الإعتماد على الآخرين في توفير الأمن وتوفير لقمة خبز الناس جريمة كبيرة لا تُغتفر”، وهو في الوقت نفسه لا ينفي حاجة الحاكم للمعونة المالية ولكن إضافة إليها، يؤكد على الحاجة لوجود أمرين: “الحرص الشديد على الإنفاق، فلا يبذّر ولا يُسرف، والحرص على الإستثمار وتنمية الإنتاج”.

أُخذ عليه مشاركته في الإنتخابات التشريعية في العام 2019 من خلال قائمة “فلسطين تجمعنا”، قائمة الوطنيين المستقلين، على اعتبار أنّ هذه الإنتخابات قد أقرّها إتفاق أوسلو، فكيف يرفض الإتفاق ويعمل بما أقرّه

من هنا كانت دعوة الدكتور قاسم الدائمة للإعتماد على الذات، وقد تناول ذلك في الكثير من كتاباته وأبحاثه، ويؤكد عليه بقوله: “إذا كنا سنبقى مُعتمدين على الدول المانحة في لقمة الخبز، فبالتأكيد نحن لا نبحث عن دولة حقيقية أو حل مُشرّف للقضية الفلسطينية”(4). من هذا المنطلق، يظهر مفهوم القوة في فكر الدكتور عبد الستّار، والذي يتمثّل برفض التسويات مهما كلّفه ذلك من محاربة وتشويه، بالتزامن مع دعوته إلى المقاومة.

يؤكد الدكتور قاسم على ضرورة “ألا يتباكى الفلسطينيون، ومن المهم أن يبعثوا مشاعر القوة بالنفوس. الإستنجاد يُضعف المعنويات، بينما بعْث القوة يُرهب العدو”(5). أما هذه القوة، فأكثر ما تمثّلت في رفضه التام والحاسم لإتفاقية أوسلو، هذا الرفض الثابت الذي لم تغيّره التهديدات والإعتقالات ومحاولات الإغتيال التي تعرّض لها. فليس الثبات بالسلاح وحده، لأنّ الإنسان حين يمتلك صلابة الموقف، لا يهزّه اعتقال ولا يثنيه تشويه. أما عن أوسلو، فقد اعتبر الدكتور عبد الستّار قاسم أنّ الإتفاق ألحق “أضراراً بالغة وخطيرة بالشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية على مختلف المستويات الإقتصادية والسياسية والأمنية والإجتماعية والأخلاقية والمالية، وأهان القضية الفلسطينية أمام العالم، وفتح الباب واسعاً أمام دول عربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني”(6).  وهنا، أُخذ عليه مشاركته في الإنتخابات التشريعية في العام 2019 من خلال قائمة “فلسطين تجمعنا”، قائمة الوطنيين المستقلين، على اعتبار أنّ هذه الإنتخابات قد أقرّها إتفاق أوسلو، فكيف يرفض الإتفاق ويعمل بما أقرّه، وهنا يجيب الدكتور قاسم:”بما أنّ الإنتخابات وسيلة من وسائل التغيير، فإنّ قائمة فلسطين تجمعنا: الوطن للمستقلين الوطنيين تستغل أوسلو عسى أن تفوز بالإنتخابات، وتتخلص بعد ذلك من أوسلو وتبعاته”(7). كما يلتقي ذلك مع رفضه التام للتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال.

ثنائية الفكر والسلاح

وفي سياق القوة، لا يمكننا إلا أن نتوقف عند دعم الدكتور قاسم الدائم لحركات المقاومة، مع الدعوة إلى ضرورة تطويرها وبناء استراتيجيات فاعلة لها، فهو يعتبر بأنّ هناك جهوداً عربية وغربية تتعاون مع “إسرائيل” من أجل سحق المقاومة. هو إذاً يدعم المقاومة المسلحة ويثني على المقاومين وعلى التطور لدى المقاومة الفلسطينية، حتى أنّه أفرد مقالاً لبحث استراتيجية المقاومة الفلسطينية الدفاعية، ختمه بالقول: “لقد فكرت المقاومة وخططت وبحثت ودققت وتروّت، وتغلّب العقل الفلسطيني على العضلات الإسرائيلية”(8)

لطالما سعى الدكتور عبد الستّار قاسم إلى التغيير، أن يكون الفكر والقوة إذا، في خدمة التغيير. هذا التغيير الذي لم يترك فرصة إلا خاض تجربتها لأجله، حين ترشّح للإنتخابات الرئاسية في العام 2004 خلفاً للراحل ياسر عرفات، قبل انسحابه بسبب غياب أسس الإنتخابات الحرة والنزيهية كما عبّر حينها، وكذلك مع إبداء نيّته الترشّح للإنتخابات الرئاسية أيضاً في العام 2019. وكان يرى أنّ هذا التغيير لن يحدث إلا بالوحدة وإنهاء الإنقسام، وهو أكثر ما كان ينبذه الدكتور عبد الستار، ويعتبر بأنّه بدأ سياسياً ولكنّه بات إجتماعيا، وهذا يهدّد قِيم العمل الجماعي والتعاون، مما يُفقد الفسلطينيين القدرة على مواجهة المحتل.

إضطهاد الفكر

أما بعد كل ما سردنا، فإنّ هذا الفكر التحرّري الواعي والعاقل، المقاوم والثابت، قد جنى من الغضب والأذى ما لا يمكن تخيّله، لم ينزل عليه الغضب من جهة المحتل فقط، بل من السلطة الفلسطينية أيضا، إعتقالات متعددة، وفرض إقامة جبرية، وتشويه سمعة، ودعاوى قضائية، وصولاً إلى محاولة الإغتيال بالرصاص، وإحراق سيارته، وغيرها مما لم يثنِ الدكتور عبد الستّار عن مواقفه، ولم يزحزحه عن خطّه الوطني المقاوم قيد أنملة.

وهكذا، لا ينتهي الحديث عن الدكتور عبد الستّار قاسم. فالباحث في سيرته وحياته، يجد نفسه في بحر واسع وعميق، يخوض فكراً تحرّرياً تحريرياً لا يقف عند إطار أو فصيلٍ أو حسابات ضيّقة، ولا يتأثر بجدلٍ أو انقسام، وربما هذا هو أكثر سحرٍ تُطلعك عليه شخصيته، هو الذي رحل في 1 شباط/فبراير 2021 متأثراً بإصابته بفيروس كوفيد 19، تاركاً خلفه فكراً نيّرا، يمتدّ بعده إلى أجيال كثيرة قادمة، وإذا ما تمّ الإطّلاع عليه وتطبيقه برؤيته الوحدوية الإستراتيجية، فسيكون حتماً مفتاحاً قوياً لأبواب التحرّر والتحرير.

*كاتبة لبنانية

المصادر:

(1) قاسم، عبد الستار. (2020). مسلمون مأزومون وليس الإسلام. موقع سما الإخبارية الإلكتروني، 12 تشرين اول 2020. مأخوذ من:

مسلمون مأزومون وليس الإسلام.. د. عبد الستّار قاسم – سما الإخبارية (samanews.ps)

(2) الدكتور عبد الستار قاسم: الحرية والتحررية والالتزام في القرآن. (2012). موقع أمجاد العرب الإلكتروني، 4 أيلول 2012. مأخوذ من:

  http://www.amgadalarab.com/?todo=view&cat=20&id=00015096

(3) قاسم، عبد الستّار. (2018). المال الأمريكي.. إبتزاز وضغوط لتصفية القضية. موقع الجزيرة الإلكتروني،  17 أيلول 2018. مأخوذ من:

https://www.aljazeera.net/opinions/2018/9/17/%D8%AF%D9%86%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A

(4) قاسم، عبد الستّار. (2016). التغلّب على الأزمة الداخلية الفلسطينية. موقع الميادين الإلكتروني، 15 تشرين الثاني 2016. مأخوذ من:

التغلّب على الأزمة الداخلية الفلسطينية | الميادين (almayadeen.net)

(5) قاسم، عبد الستّار. (2018). خطاب عباس في الأمم المتحدة مجرد لغو سياسي. موقع الجزيرة الإلكتروني، 10 تشرين أول 2018. مأخوذ من:

https://www.aljazeera.net/opinions/2018/10/10/%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D8%AC%D8%B1%D8%AF-%D9%84%D8%BA%D9%88

(6)(7) قاسم، عبد الستّار. (2019). نستعمل أوسلو للتخلص من أوسلو. موقع فلسطين اليوم الإلكتروني، 10 كانون أول 2019. مأخوذ من:

نستعمل أوسلو للتخلص من أوسلو -بقلم : د. عبد الستار قاسم | فلسطين اليوم (paltoday.ps)

(8) قاسم، عبد الستّار.(2014). استراتيجية المقاومة الفلسطينية الدفاعية. موقع الأخبار الإلكتروني، 20 آب 2014. ماخوذ من:

استراتيجية المقاومة الفلسطينية الدفاعية  (al-akhbar.com)


وسوم :
, , , , , , , , , , , ,