جنين، مُجدّدة الإشتباك
أبريل 15, 2022 7:24 ص*أحمد الطناني – غزة:
لم تكن جنين، عبر تاريخها، محافِظة على هامش الفعل المقاوم الفلسطيني، فهي جنين القسّام والسعدي مُفجّري الثورات في وجه قطعان المستوطنين إبان الإنتداب، وهي مثلث الرعب للمستوطنين وجيش الاحتلال بإنتفاضة الحجارة، وهي جنين أبو جندل وطوالبة التي شكّلت ملحمة الصمود والمواجهة في إنتفاضة الأقصى، هي جنين التي يتربى فيها الأجيال على سِير الشهداء وصورهم ومآثرهم وبطولاتهم، هي جنين التي لم يخرج منها جيل إلا وورث ملامح البطولة والفداء عن من سبقوه من المقاومين والثوار، هي جنين التي حفر أبناؤها بأظافرهم وعزيمتهم نفق الحرية وحطّموا أسطورة أعتى السجون في العالم، وهي جنين مُجدّدة الإشتباك والمواجهة بعد 20 عاماً على عملية “السور الواقي” العدوانية التي استهدفت كل بُنى المقاومة المسلحة في الضفة المحتلة، ودمرت مخيّم جنين وحوّلته إلى ركام، واليوم ينهض الجيل الذي نشأ بعد أن خرج من بين الأنقاض قابضاً على الجمر، ليحوّل هذا الجمر إلى سلاح مصوّب تجاه ثكنات ومواقع الاحتلال، هي جنين التي ما إن انطلقت المبادرة الثورية بحمل السلاح حتى كانت جحافل شبابها تتقدم الصفوف وتغيّر كل المعادلات والحسابات الصهيونية، وتُسقط كل نظريات تدجين الفلسطيني وخلق جيل فلسطيني يقبل الاحتلال.
سيف القدس تُلهم مُجدّدي الإشتباك
“مُجدّد الإشتباك” هو اللقب الذي يُطلقه أهالي وشباب محافظة جنين، بمخيّمها ومدينتها وقراها، على الشهيد جميل العموري الذي يُنسب له ولمجموعته الأولى (التي لم تتعدَّ خمسة شبان) المبادرة الأولى للإشتباك المسلح مع الاحتلال نصرةً للقدس ودعماً للمقاومة في غزة إبان معركة “سيف القدس” في أيار/مايو من العام المنصرم.
خرج جميل العموري ومجموعته في مؤتمر صحفي وهم ملثّمين بعد تصاعد الأحداث في معركة “سيف القدس” مطالبين كل المسلحين الفلسطينيين بتوجيه سلاحهم إلى المحتل وتفعيل المقاومة المسلحة، لتتوالى بعدها عمليات إطلاق النار التي نفّذها ومجموعته على نقاط التماس مع الاحتلال، وبشكل خاص حاجزي “الجلمة” و”دوتان” العسكريين المحاذيين لمحافظة جنين.
توسّع الفعل المقاوم والحالة المسلحة في مخيّم جنين مع تزايد الفعل النضالي للمجموعة المقاومة، وأدّى حدث ارتقاء المقاوم جميل العموري شهيدا، إثر عملية إغتيال صهيونية في شهر حزيران/يونيو من العام 2021، إلى تحوُّل العموري إلى أيقونة نضالية ألهمت العديد من الشبان في مخيّم جنين ومدينتها وقراها، وحفّزت على توسُّع حالة الإلتحاق بركب المقاومين، وعزّزت روح المبادرة لحمل السلاح في وجه الاحتلال، إذ أصبحت حوادث إطلاق النار باتجاه دوريات الاحتلال التي تقتحم جنين ومخيّمها عبارة عن حدث دائم.
نفق الحرية مُحفِّز للمزيد من التنظيم
شكّلت حادثة هروب أسرى “نفق الحرية” والحديث عن إمكانية وصولهم إلى محافظة جنين محطة جديدة للتفاعل الشعبي مع خلايا المقاومة المسلحة، إذ بدأت المجموعات التي تكوّنت سواء الملتحقة بمجموعة “العموري” ورفاقه التي توسّعت، أو مجموعات أخرى بادرت إلى حمل السلاح، بالتواصل والتفاعل في إطار تعزيز الجهد والتنسيق، ليكون الظهور الأول لمسمّى “كتيبة جنين” كتشكيل عسكري مقاوم يعبّر عن مقاومي جنين من خلال إستعداده لاحتضان الأسرى وحمايته، حيث شكّلت “الكتيبة” عاملاً جديداً مُحفِّزاً للمزيد من التوسُّع والتفاعل وأعطت بُعداً جديداً لشكل العمل المسلح في المحافظة.
كما أنّ عظمة الإرادة لأسرى نفق الحرية (وهم جميعاً من محافظة جنين) ولهم باع في المقاومة وتاريخ من البطولات نشأ على قصصهم وبطولاتهم أبناء المخيّم الذين أصبحوا اليوم عنوان المرحلة، حيث آمن هؤلاء الشبان أن لا وجود للمستحيل إن توفرت الإرادة، وكما تمكّن أبطال نفق الحرية من انتزاع المستحيل من بين مخالب السجان، سيستطيع هؤلاء الشبان تغيير المعادلة إن حملوا سلاحهم وقالوا “لا” في وجه كل من قال “نعم”.
الصمود والتوسُّع أمام الرهانات بالسقوط
لم يراهن الكثير من المراقبين والمتابعين على أنّ هذه الحالة المسلحة يمكن أن تصمد، وقدّر الجميع في المستويات الأمنية الصهيونية، أنّ هذه حالة عاطفية سرعان ما ستتعامل معها أجهزة الأمن الصهيونية، وتستكمل المهمة أجهزة أمن السلطة، التي لاحقت واعتقلت جزءاً منهم، إلا أنّ توسُّع الحالة وقدرتها على الصمود والتمدد فاجأت الجميع، فاليوم يمضي على التواجد المسلح المقاوم في جنين ما يقارب العام، لم يخلُ فيه أسبوع من عمليات إطلاق النار باتجاه قوات الاحتلال، تنوعت فيه هذه العمليات ما بين الحالات الدفاعية التي تتصدى لإقتحامات قوات الاحتلال، أو مبادرات هجومية باتجاه نقاط التماس المحاذية لجنين.
اللافت أنّ هذه الحالة المقاومة لم تبقَ محصورة بعدد محدود من الشبان، بل توسّعت وأصبحت حالة شعبية عامة، فلا يكاد يخلو زقاق أو مربع سكني من وجود المقاومين، ولا يمر أي اقتحام لجيش الاحتلال في أي وقت وفي أي بقعة إلا وتصدّى له المقاومون بزخّات من الرصاص.
هذه الحالة التي بدأت في المخيّم وامتدت إلى المدينة، لم تبقَ رهينة هذين الموقعين بل وصلت إلى ريف جنين، فأصبح هناك خلايا مسلحة في قرى عرابة ويعبد والسيلة الحارثية واليامون تُباغت الاحتلال وتُناوره وتتصدّى له، تتكامل في فعلها ما بين المخّيم والمدينة والريف.
جنين منبع المقاومين والإستشهاديين
شكّل إنطلاق عدد من العمليات الفدائية من محافظة جنين وقراها مثل عملية أبناء جرادات التي إستهدفت مغتصبي مستوطنة حومش، وعملية الشهيد ضياء حمارشة في بني براك بتل أبيب، وعملية الشهيد رعد خازم في شارع ديزنكوف بقلب الكيان الصهيوني، عاملاً ضاغطاً إلى جانب الضغط الذي يُشكّله توسُّع حالة المقاومة وازدياد عدد منتسبيها ومبادراتها الثورية، حيث أصبح الاحتلال يعي تماماً أنّه ليس أمام حالة عابرة، أو ظاهرة صوتية، أو بنادق إستعراضية، بل هو أمام مدٍّ ثوري إنتفاضي واضح يُشكّل الجيل الشاب عماده، هذا الشباب الذي كسر حاجز الخوف والصمت وقرر حمل السلاح والتمرّد ومغادرة حالة الإنتظارية السلبية، بل هو جيل يتحلّى بجرأة منقطعة النظير، فقد أوضحت وسائل الإعلام الصهيونية أنّ الشهداء المقاومين الثلاثة: سيف أبو لبدة، خليل طوالبة وصائب عباهرة قد تمكنوا من اكتشاف كمين القوات الصهيونية الخاصة الذي يستهدفهم قرب يعبد، وكان بإمكانهم الإنسحاب من المكان دون أن يتحقق هدف القوة المُعتدية، إلا أنّهم آثروا المبادرة بالإشتباك مع القوة الصهيونية حيث أُصيب قائدها بجراح خطيرة قبل أن يرتقيَ الثلاثة، الذين وصفهم الاحتلال بـ”القنبلة الموقوتة”، شهداء آثروا الموت بين زخّات الرصاص.
المدّ الثوري في مواجهة “كاسر الأمواج”
إتّخذ الاحتلال قراراً بتنفيذ عملية عسكرية – أمنية تحت مُسمّى “كاسر الأمواج” تهدف إلى كسر أمواج المدّ الثوري والفعل المقاوم المتصاعد في الأراضي الفلسطينية، خصوصاً في الضفة المحتلة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، والتي تضع في مقدمة أهدافها إنهاء الحالة المقاومة المسلحة في شمال الضفة عامة، وفي جنين بشكل خاص ووضع حد لنشاطها، وبدأت بتصعيد الضغط على المقاومين عبر عمليات “جز العشب” و”الملاحقة الساخنة” وتكثيف الإقتحام والإعتقالات والإغتيالات المتتالية لنشطائها.
إلا أنّ هذه العملية تأتي بنتائج عكسية حتى الآن على الاحتلال، وما يلبث المقاومون الفلسطينيون يسجلون نقاط التفوق على الجيش الصهيوني الأكثر تطوراً في المنطقة، فبدلاً من محاصرة الفعل المقاوم في جنين، بدأ هذا الفعل يتمدّد ويتوسّع، وأصبحت المبادرات المسلحة التي تستهدف نقاط المواقع العسكرية الصهيونية أوسع وأكبر، حيث أنّه في ليلة واحدة شهدت كلاً من جنين، نابلس، طولكرم، بيت لحم ورام الله عمليات إطلاق نار إستهدفت جنود الاحتلال وثكناته، بينما شهدت باقي مدن ومخيّمات الضفة حالات هجومية شعبية بالحجارة والمولوتوف إستهدفت مواقع وآليات جيش الاحتلال.
تحوّلت جنين، التي جدّد فيها شاب مقاوم ومجموعته الإشتباك والمواجهة، إلى الأيقونة التي تُجدد ثقافة الإشتباك المسلح على امتداد خارطة الوطن، وأصبحت المدّ الثوري الذي يهشّم “كاسر الأمواج” الصهيوني، وحفّزت المزيد من الشبان لحمل سلاحهم والتصدّي لقطعان المستوطنين وجحافل الجيش المجرم.
نحو أوسع إسناد لجنين، كفاحياً وإقتصادياً
يحاول الاحتلال بشتى الوسائل كسر “نموذج جنين” وتأليب جبهتها الداخلية ضد المقاومين عبر فرض عقوبات إقتصادية جماعية بحقّ سكانها، وحصار إقتصادي يستهدف مصالح سكانها وتجارها وعامليها، وهو ما يتطلب من كل مدن الضفة المحتلة بقطاعاتها المختلفة تشكيل شبكة أمان إقتصادية تعزّز صمود جنين وأهلها، وتحمي هذا النموذج من الإستفراد الصهيوني.
في ذات الإطار، حتى لا يتحوّل مقاومو جنين إلى هدف مستباح للاحتلال وماكينته الإجرامية، فالمطلوب أن يتعزّز نموذج الإشتباك المسلح والمواجهة ليشمل كل مدن الضفة المحتلة، ولتكن كل الضفة جنين، فليبادر كل من يستطيع حمل السلاح إلى المزيد من الفعل الثوري، ولتكن خارطة الإشتباك هي خارطة الوطن، إسناداً للقدس، لجنين، للداخل المحتل، للحقّ الفلسطيني، وتصويباً للبوصلة تجاه فلسطين من نهرها إلى بحرها.
المقاومة في الساحات الأخرى ستكون حاضرة حكما، وبشكل خاص في قطاع غزة التي أعلنت بوضوح أنّها لن تكون بمعزل عن مشهد المواجهة والإشتباك، بل ستكون عند عهدها مع شعبها بعدم ترك أي بقعة فلسطينية هدفاً سهلا للعدو الصهيوني، لا في القدس ولا في جنين ولا في النقب، فما بعد معركة “سيف القدس” ليس كما قبله، وإنّ ترابط ساحات الفعل الفلسطيني هو الإستراتيجية الحاضرة الآن على طاولة قوى المقاومة.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
أحمد الطناني, الاحتلال الإسرائيلي, الحصار الإقتصادي, الضفة الغربية, العقوبات الإقتصادية, القنبلة الموقوتة, المقاومة الشعبية, سيف القدس, صمود, غزة, فلسطين المحتلة, قطعان المستوطنين, كاسر الأمواج, كتيبة جنين, مُجدّد الإشتباك, مخيّم جنين, نفق الحرية