في محراب القدس ويومها الأغرّ

التصنيفات : |
أبريل 29, 2022 7:01 ص

*أحمد حسن

بقدر ما هي إبنة التاريخ المقدّس ووالدته في الآن ذاته، بقدر ما كانت -ولا زالت- “زهرة المدائن” ضحية لمطامع غزاة متعددين حاولوا السيطرة عليها بحثاً عن منفعة دنيوية خالصة غُلّفت بوهم تاريخي لا يمكن له أن يتحقّق إلا بعملية اغتصاب واستلاب فاجرة للتاريخ الذي تكتنزه “مدينة السلام” وجعله تاريخهم الخاص أولا، وحصرا، علّهم بذلك يمتحون قدراً من شرعيتها يمنحهم إسماً ومكاناً وحقّاً طالما ادّعوه عبر قبر موهوم وهيكل مزعوم وقصص وروايات لم يُثبت علم الآثار -باعتراف المنصفين منهم- أياً منها، في ما كانت، ولا زالت، هذه المدينة، وبالوداعة التي تحتضن فيها الزائر المسالم، تسخر، بقساوة، من الغازي وتلفظه بعيداً مهما طال بها زمن الضعف وامتدّ به زمن الوهم، وتبقى، بالمحصلة، راسخة رسوخ “صخرتها” التاريخية المقدّسة.

كم كانت معبّرة كلمات شاهد عيان لِما حدث في القدس يوم 15 تموز/يوليو 1099 حين قال: “ولا زال الإفرنج يجوسون المدينة شاهرين السيوف، لا يشفقون على أحد، حتى على الذين يتوسّلون الرحمة”.

ولأنّ ذلك هو قدرها، فقد كانت الدماء السائلة من عروق أبنائها هي نسغها الوحيد لإعادة انبعاثها الدائم، وهو أيضاً قدر كل من عاش فيها وعاشت به، ولأنّ الغزاة، على اختلافهم، فهموا ذلك فقد كان حلمهم، ودأبهم، إفراغها من سكانها الأصليين سواء بالنفي والتهجير أو بالإلغاء الجسدي الكامل، وذلك مثلاً كان حال “الفرنجة” منذ أقل من ألف عام بقليل، وكم كانت معبّرة كلمات شاهد عيان لِما حدث في القدس يوم 15 تموز/يوليو 1099 حين قال: “ولا زال الإفرنج يجوسون المدينة شاهرين السيوف، لا يشفقون على أحد، حتى على الذين يتوسّلون الرحمة”.

وذلك هو أيضاً حال اليوم الراهن، فمنذ “النكسة” وحتى الآن لا زال الإفرنج، وأمام ملايين شهود العيان -وعبر طليعة جيوشهم المتقدمة: “إسرائيل”- يجوسون المدينة شاهرين أحدث ما أنتجته مصانع السلاح بهدف طرد أهلها وتهجيرهم وتغيير البنية الجغرافية والديموغرافية لسكانها، ترهيباً وترغيبا، لجعل “القدس الموحدة”، برمزيتها الهائلة، عاصمة أبدية لـ”إسرائيل”، لكنّ العلامة الفارقة لِما حدث قبل ذلك بنحو تسعمائة عام أنّ أحداً من فلسطينيي اليوم لا يطلب منهم الرحمة، بل يقاوم عهرهم بما استطاع إليه سبيلا.

والحقّ فإنّ أحداً لا يماري بمركزية القدس في الوعي الإسلامي العربي، ولا يجادل برمزيتها الهائلة بالنسبة لفلسطين وقضيتها، وبالتالي بأهمية ورمزية “يومها” الذي يصادف “جمعة الوداع” لشهر رمضان المبارك كحدث سنوي تذكيري بالرفض المطلق لأطماع “إسرائيل” ورغباتها، عبر إبقاء “وعي” القدس ولحظتها حاضريْن في الوجدان الشعبي المقاوم كما أراده مؤسس هذا اليوم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آنذاك، روح الله الخميني الذي قال عام 1979: “إنّني أدعو المسلمين في جميع أنحاء العالم لتكريس يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، ليكون يوم القدس، وإعلان التضامن الدولي من المسلمين في دعم الحقوق المشروعة للشعب المسلم في فلسطين”.

والحقّ فإنّ “الخميني” بنى اختياره لهذه المدينة وهذا اليوم تحديداً من هذا الشهر الفضيل على عوامل ومزايا عدة إختزنها كل مما سبق على حدى، منها مثلاً مكانة القدس في الوعي الإسلامي الجمعي كمدينة الأنبياء وموقع الإسراء والمعراج وقِبلة المسلمين الأولى، ومنها أيضاً موقع هذا الشهر الكريم في نفوس المسلمين باعتباره شهر الوحدة الدينية العامة وشهر الجهاد والإنتصار المشهود، ومنها كذلك موقع يوم الجمعة ودلالته الجامعة لعموم المسلمين، فكيف بالجمعة الأخيرة من شهرٍ كرمضان المبارك!.

إنّ وعي “لحظة القدس” هذه، بداية تصويب للبوصلة نحو الوجهة الحقيقية، كصراع إنساني وحضاري قاسٍ وطويل بين غاصب وضحية، لا تكفيه المسيرات الحاشدة –البعض يشارك بها للصورة والبعض لضرورات المنصب والبعض كي يقول إنّه فعل ما عليه-

بهذا المعنى يبدو “يوم القدس” يوماً ضرورياً لإبقاء جذوة القضية مشتعلة من جهة أولى، ولتذكير الإفرنج -الإسرائيليون والعرب منهم أيضا- بأنّ المسألة ليست صراعاً حدودياً على أمتارٍ هنا، وخطِّ أخضر أو أحمر هناك، لكنّ ذلك، على أهميته ورمزيته الهائلة، لا يجب أن يعمينا عن حقيقة أنّ القدس وقضيتها أكبر بكثير من “يومها”، وبالتالي فإنّ غلاف “اليوم” و-المعركة- الديني الناتج عن سعي الصهاينة لتهويدها، بالإضافة إلى موقعها الروحي عند المسلمين، لا يجب أن يخفيَ حقيقة أنّها أيضاً معركة تخصّ جميع أبنائها بغض النظر عن دينهم ومعتقدهم، كما تخصّ جميع الأحرار في الأرض سواء كانوا متدينين أم لا، فهذه قضية الإنسان أولاً وأخيرا، وبالتالي فإنّ وعي ذلك وتعميمه هو شرط لازم لاستعادتها حرّة بصورة كاملة، وما الإعتراف الأمريكي السابق بالقدس عاصمة أبدية لـ”إسرائيل”، إلا تعبير دقيق عن فهمهم لهذه المعادلة، وما تعامي البعض منّا عن ذلك سوى جهل تام بالصراع وحقيقته، أو مشاركة واعية للقاتل في جريمته المقصودة.

بهذا المعنى يصبح وعي “لحظة القدس” هذه بكل أبعادها وآثارها الداخلية والخارجية، بداية تصويب للبوصلة نحو الوجهة الحقيقية، كصراع إنساني وحضاري قاسٍ وطويل بين غاصب وضحية، لا تكفيه المسيرات الحاشدة –البعض يشارك بها للصورة والبعض لضرورات المنصب والبعض كي يقول إنّه فعل ما عليه- ولن تنفعه بيانات التضامن والدعاء لله كي يبيد “الكفّار” في ما أضاف هؤلاء إلى خرافاتهم التاريخية ودعواتهم الإلهية أسس القوة المادية لاحتلالها بيتاً بيتاً وشارعاً شارعا.

خلاصة القول، غزاة كُثر مرّوا في شوارع القدس ودروبها، ولكنّ دماء وعزيمة أبنائها –وقد أثبتت كل الوقائع أن لا رهان صادق إلا عليهم- “كَنَست” الجميع، وكما سابقا، كذلك الآن، وكذلك في الغد .. للقدس سلام آت..آت..آت..

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , ,