“تجدّد وتجديد”.. الجبهة الشعبية تعقد مؤتمرها الوطني الثامن

التصنيفات : |
مايو 27, 2022 7:51 ص

*أحمد الطناني – غزة:

أنهت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مؤتمرها الوطني الثامن، الذي لم يتمّ الإعلان عن مخرجاته كاملة حتى كتابة هذا المقال، علماً أنّ العادة جرت في الأحزاب الثورية بما فيها الجبهة الشعبية بعدم الإعلان عن كامل المخرجات، لأسباب أمنية مرتبطة بحالة المواجهة المستمرة مع الاحتلال الصهيوني، إلا أنّ الجزء العلني يخرج تباعاً بعد إنهاء اللجان المختصة التعديلات المطلوبة وخلاصة النقاشات بالمؤتمر.

لقد أخذ البيان المقتضب الذي أعلن عن انتهاء أعمال المؤتمر الوطني الثامن للجبهة الشعبية صدىً واسعاً في صفوف المتابعين على الصعيد الفلسطيني والإقليمي، وبين قوى التحرر العالمية التي تربطها بالجبهة الشعبية علاقات تاريخية وثيقة، حيث للجبهة أهمية استثنائية في المشهد الفلسطيني، وعلى صعيد الإقليم والأحزاب اليسارية عموما، ففلسطينيا، هي ذات الحضور التاريخي المعروف عنه بمبدئية المواقف والتضحية العالية إذ قدّمت قادتها شهداء وأسرى وفي طليعتهم الأمين العام السابق الشهيد أبو علي مصطفى، والأمين العام الحالي أحمد سعدات الذي يقبع في السجون الصهيونية، وإقليمياً ويسارياً تُشكّل الجبهة منارة ونموذجاً للكثير من الأحزاب اليسارية التي ترى في الجبهة الأخت الكبرى والقدوة، في التمسّك بالثوابت، وربط الشعارات بالبرامج، وعدم الخضوع لكل محاولات التدجين، أو الإنسلاخ عن هويتها الفكرية والسياسية، وانحيازها المحسوم للفقراء والكادحين، وتصنيفها القاطع لمعسكر الأعداء ومعسكر الأصدقاء، دون مواربة أو مصالح.

نموذج ديمقراطي قلّ نظيره

أجرت الجبهة الشعبية إنتخاباتها الداخلية وسط أجواء من السرية التامة، إرتباطاً بطبيعة الملاحقة والإستهداف المستمر لها ولكوادرها، وحساسية وأهمية المؤتمر كونه محطة تقييمية لتجربة فاصلة بين المؤتمر السابق والحالي والتي استمرت مدة 9 سنوات منذ انعقاد المؤتمر السابع في كانون الثاني/ديسمبر 2013، إلا أنّ اللافت هو حرص الجبهة على انعقاد مؤتمرها الوطني العام، رغم الظروف الإستثنائية التي تمرّ بها، بدءاً من عدم القدرة على عقد المؤتمر في مكان واحد بسبب الملاحقة والتضييقيات والإعتقالات بحقّ كوادرها، وليس انتهاءً بالظروف الإستثنائية (التي أصبحت معتادة لدى الجبهة) من ملاحقة ومحاولات تعطيل وتدخّل من أطراف معادية التي تجد في نهوض الجبهة خطراً داهما.

حقّقت الجبهة الشعبية من حيث المبدأ انتصاراً بعقدها للمؤتمر الوطني، هذا الإنتصار هو انتصار لعضويتها أولاً ولحقّها الثابت في انتخاب قيادتها وتقييم ونقد تجربتها خلال السنوات السابقة، وهو أيضاً انتصار لتاريخها وأرثها بالحفاظ على مسيرة تكامل الأجيال ونقل الراية من جيل لآخر يحمل العهد والبرنامج ويكمل المسيرة، إضافة إلى أنّه انتصار لقيم الديمقراطية والتقدمية التي تحملها الجبهة وتناضل من أجلها بإقامة مجتمع ديمقراطي في كل بقعة فلسطينية، وفي كل إطار وجسم ونقابة وتجمّع، وترفع هذا الشعار والبرنامج وتطالب بتحقيقه، ومن غير المنطقي أن لا تطبق ما تناضل لأجله داخلياً بالحفاظ على ديمومة العملية الديمقراطية الداخلية.

قدّمت الجبهة الشعبية نفسها كنموذجاً قلّ نظيره في أحزاب اليسار العربية وغالبية الأحزاب الفلسطينية التقليدية، التي تسيطر على أغلبها القيادة الأبوية، وإن عُقدت مؤتمراتها الداخلية، تكون شكلية، جوهرها التصفيق وإعادة إنتاج قيادتها، دون أي ممارسة ديمقراطية حقيقية، لا في النقد والوقفة أمام التجربة، ولا في التجديد وضخ الدماء الجديدة، إلا أنّه وسط هذا المشهد حافظت الجبهة الشعبية على نموذجها المُشرق في التجديد والنقد ومواكبة متطلبات كل مرحلة ونجحت في كل محطة ورغم كل الظروف بإنجاز لوحتها الديمقراطية وتقديم مُخرجات مُشرفة.

حقّقت الجبهة الشعبية نِسباً متميزة بالتجديد في صفوف عضوية هيئاتها القيادية، إذ تجاوزت نسبة التجديد في عضوية لجنتها المركزية العامة 50%، بينما تجاوزت الـ70% في عضوية مكتبها السياسي

تجديد واسع

حقّقت الجبهة الشعبية نِسباً متميزة بالتجديد في صفوف عضوية هيئاتها القيادية، إذ تجاوزت نسبة التجديد في عضوية لجنتها المركزية العامة 50%، بينما تجاوزت الـ70% في عضوية مكتبها السياسي، حيث تؤشّر هذه النسب على تجديد منقطع النظير في تاريخ الجبهة وغالبية الأحزاب، حمل في طياته حضوراً مميزاً للشباب يواكب أهمية التحديث في الأدوات والوسائل بما يوائم التطور المتسارع في العالم، والدور المحوري للشباب فيه.

هذا التجديد ترافق مع تجديد المؤتمر لثقته بالأمين العام للجبهة الشعبية، الأسير أحمد سعدات، الذي يُمثّل عنواناً للصمود والإقدام، للقيادة التي تسبق الجند في حمل المهمات الكفاحية، وتجربته زاخرة بالدروس، فهو حمل على عاتقه مهمة استمرار المواجهة والإشتباك مع الاحتلال بعد اغتيال الأمين العام السابق أبو علي مصطفى، ونفّذ بجدارة استحقاق الثأر ورسم خطاً واضحاً لشكل الرد على إجرام الاحتلال، فلم يكن الإعتقال نهاية المسيرة، بل وحوّل السجون إلى ساحة مواجهة يتقدّم فيها هو كل الصفوف في مقارعة السجان والتصدي للجرائم المستمرة بحقّ الأسرى، ورافق كل هذا تقديمه الدائم لإسهامات فكرية وسياسية وتنظيمية جريئة ومقدامة ساهمت في إغناء سياسات الجبهة ووثائقها ومواقفها.

في ما كان التجديد اللافت إنتخاب نائب الأمين العام المناضل جميل مزهر، قائد الجبهة الشعبية في قطاع غزة والوجه الأبرز في الحراك السياسي والتنظيمي للجبهة في القطاع خلال السنوات الأخيرة

في ما كان التجديد اللافت إنتخاب نائب الأمين العام المناضل جميل مزهر، قائد الجبهة الشعبية في قطاع غزة والوجه الأبرز في الحراك السياسي والتنظيمي للجبهة في القطاع خلال السنوات الأخيرة، وله بصمات واضحة في تعزيز حضور الجبهة في كل المحافل، ليس في القطاع فقط، بل في المشهد الفلسطيني ككل وعلى مستوى العلاقة مع القوى والإقليم، فهو قائد يتمتع بقدر عالٍ ومتميز من الحضور الكاريزماتي والقدرة السياسية والخبرة التنظيمية.

يُصنّف مزهر بأنّه من الجيل الجديد في القيادة، فهو على صعيد العمر أصغر بفارق واضح عن غالبية الجيل القيادي السابق، وهو أيضاً سليل التجربة التنظيمية في الأرض المحتلة، تدرّج فيها في المهمات والعمل وصقل القدرات والتجارب، وصولاً لموقعه اليوم كنائب للأمين العام، وكأول نائب لأمين عام الجبهة الشعبية من قطاع غزة الذي يُمثّل اليوم رأس الحربة في المشروع الوطني الفلسطيني والساحة الأبرز في المقاومة والفعل الذي لم يبقَ محصوراً بالقطاع، بل في كل ساحات الفعل الفلسطيني عبر تبنّي استراتيجية ترابط الساحات.

غادرت الجبهة أسماء كبيرة ووازنة شملت كلاً من: أبو احمد فؤاد (نائب الأمين العام السابق)، ليلى خالد، ماهر الطاهر وأبو علي حسن، الذين احتفظوا بعضويتهم باللجنة المركزية العامة، كذلك الدكتورة مريم أبو دقة التي تخلّت عن كل مواقعها القيادية طوعا، لإفساح المجال للكوادر الشابة

شمل التجديد في الهيئات تغييراً واسعاً في عضوية المكتب السياسي للجبهة، الذي غادرته أسماء كبيرة ووازنة شملت كلاً من: أبو احمد فؤاد (نائب الأمين العام السابق)، ليلى خالد، ماهر الطاهر وأبو علي حسن، الذين احتفظوا بعضويتهم باللجنة المركزية العامة، كذلك الدكتورة مريم أبو دقة التي تخلّت عن كل مواقعها القيادية طوعا، لإفساح المجال للكوادر الشابة، وهذا التجديد الذي أخذ سِمة السلاسة والتكامل ما بين الأجيال حكمه بُعدان: الأول، نظامي، بعدم قانونية أن يحتفظ عضو المكتب السياسي بعضوية هذه الهيئة لأكثر من دورتين، والثاني، أخلاقي، بإدراك الرفاق لأهمية التجديد مع الإحتفاظ بضرورة تكامل التجربة والخبرة مع القيادات الشابة عبر وجود جزء أساسي منهم في عضوية اللجنة المركزية الجديدة.

خاتمة

رغم حجم التغيير الواسع الذي حمله مؤتمر الجبهة الشعبية في الهيئات القيادية والوقفة الجادة أمام التجربة في الفترة الفاصلة ما بين المؤتمرين، إلا أنّ المؤتمر قد أكّد على الخطوط الأساسية لبرنامج الجبهة السياسي والكفاحي، والتأكيد على الهوية الفكرية للجبهة.

هذا البرنامج مترافقاً مع التغيير والدماء الشابة في عضوية الهيئات القيادية يفرض على الجبهة أن تكون بقدر التحديات والآمال والطموحات المتوقعة منها، إذ أنّ قوة الجبهة وقوة حضورها تُشكّلان قوة للقضية الفلسطينية ولبرنامج المقاومة، وانتصاراً للرؤية التقدمية، وسط مشهد معقّد مليء بالعقبات حيث ما زال الإنقسام جاثماً على صدر الشعب الفلسطيني، والاحتلال يتمادى في عدوانه على الشعب الفلسطيني ويتمدّد الإستيطان ليبتلع ما تبقّى من الأرض الفلسطينية، ولا زالت منظمة التحرير رهينة التفرّد والهيمنة والإقصاء والتهميش، وتعاني مخيّمات الشتات من مخططات التهجير وتصفية قضية اللاجئين في ظل تواطئ الأونروا الهادف لتصفية وجودها كشاهد تاريخي على حقّ اللاجئين الفلسطينيين.

هذه التحديات تفرض على الجبهة الشعبية أن تكون بقدر الآمال والطموحات وأن تقدّم إسهاماً نوعياً وفاعلاً في إعادة الإعتبار للمشروع الوطني ولملمة شتاته وتصويب بوصلته باتجاه التناقض الرئيسي مع الاحتلال والتأكيد على وحدة الساحات الفلسطينية واستعادة منظمة التحرير كإطار وطني جامع للشعب الفلسطيني يحمل مهمة قيادة مشروع التحرير والاستقلال.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , ,