عن الأدب الإسرائيلي و”خوف الغزاة من الذكريات”
يوليو 8, 2022 7:01 ص*وسام عبد الله
خمسون عاماً مضت على اغتيال الأديب والمناضل الفلسطيني غسّان كنفاني. لم يحتمل الاحتلال فكرة الأدب بكل صنوفه، فكانت جريمة التصفية الجسدية ليست الهدف النهائي، إنّما محاولة منع كتابة الرواية والقصص والشعر، داخل الأراضي المحتلة ومخيّمات اللاجئين، كونها تشكّل حاملة التفاصيل اليومية للإجرام الاسرئيلي والصمود الفلسطيني.
تطويع الكلمة
لا تقتصر المحاكم الإسرائيلية على المقاومين وعملياتهم العسكرية فقط، فالأمر ينطبق أيضاً على الإصدارات الثقافية الفلسطينية والتي تعبّر عن واقع معاناة شعب يرزح تحت الاحتلال. فكانت الإجراءات.. بين نقاشات داخل المؤسسات الرسمية حول منشورات معينة، كما حدث سنة 1988 في اجتماع الكنيست لمناقشة قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش “عابرون في كلام عابر”، أو اغتيالات وتصفيات مثلما حصل لرسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي. لماذا هذا الخوف من الفكرة/الكلمة/الفن/الثقافة؟.
شكّلت اللغة العبرية حاجة وضرورة لتأسيس الكيان الهجين، وهي بحد ذاتها إشكالية في جذورها وأصولها، فكانت الثقافة هي المساحة المثالية لانتشار اللغة وترسيخها، مع “قدسيتها” كونها لغة الصلاة والطقوس اليهودية، بحسب معتقدات العدو. وكان الأدباء اليهود جزءاً من المستوطين المهاجرين من مختلف دول العالم نحو فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي، أي قبل إعلان تأسيس الكيان رسميا.
عمل الاحتلال منذ النكبة على استثمار الأدب في الترويج لروايته، فاستخدم مصطلح الأدب “العبري” أو “اليهودي”، لمحاولة إعطاء الكيان الغاصب بعداً تاريخيا، فكان كل عمل أدبي يصدر من يهودي أو مؤيّد للحركة الصهيونية يتمّ تصنيفه ضمن المكتبة “العبرية”. فنحن أمام انتقال بالرواية الأدبية من الكتابة في أوروبا إلى الكتابة في الأراضي المحتلة، وعلى عكس الأدباء الذين ينضجون في مجتمعاتهم ويكتبون عنها، نحن أمام محاولة دمج لسد الفجوة بين الطرفين والمكانين لخلق وهم الإستمرارية. وهذا ما يفسر سبب الاهتمام الإسرائيلي الرسمي بتخصيص ميزانية مرتفعة لوزارة الثقافة دعماً للمنشورات الأدبية.
الحدوتة الأكذوبة
إنّ تكبيل كل رواية تتحدث عن بداية تأسيس الكيان ضمن منظومة ممنوعات يحظّر الكيان التطرق إليها أو تجاوز حدودها، تبدأ من الكلام على المنابر السياسية وفي المناهج التعليمية وصولاً إلى المنشورات الأدبية على تنوّعها. نشر الروائي الإسرائيلي يزهار سميلانسكي سنة 1949 رواية بعنوان “خربة خزعة”، عبّر خلالها عن مرحلة 1948 من احتلال وإستيطان، ضمن سردية الإنتصار، فكتب عن سلوك عصابات الهاجاناه في القرى الفلسطينية التي قاموا بإفراغها من سكانها، حيث حمّلوهم بالشاحنات وأبعدوهم عن بيوتهم، وهو ما أثار استنكار الكنيست، فهذه الكلمات تعارض تماماً الحجة الصهيونية، بأنّ فلسطين أرض بلا شعب، وأنّها حرب غير شرعية مع تحديد الطرفين بعكس التوصيفات الحكومية التي تحدد أنّها حرب “استقلال” يقودها الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى الوهم الذي انتشر في الإعلام ووصل تأثيره إلى ّبعض العرب، بأن الفلسطينيين هم من تخلّوا عن بلادهم في ما الرواية تدعم الحقيقة بأنّهم طُردوا وهُجّروا قسراً من منازلهم.
إنّ التدقيق في الروايات الأدبية الإسرائيلية يُظهر حجم التضليل وتشويه التاريخ من خلال إقحام العقيدة التوراتية، عن هيكل سليمان وممكلة داوود، فنحن هنا أمام نوعين من الروايات: النوع الأول، الرواية الدينية، التي يعتمد فيها المؤرخون على تزوير الأساطير التوراتية ويستخدمونها لإعطاء البعد “المقدّس” لاحتلال اليهود “أرض الميعاد”.. فلسطين.
أما الثاني، القصة الأدبية، التي تسعى “إسرائيل” من خلالها لأن تتماهى مع النوع الأول، أي تشويه الحاضر، كما التاريخ، لتبرير تأسيس الكيان المحتل وإقامة الدولة المزعومة على أرض فلسطين التاريخية. إذا، نحن لسنا أمام أعمال أدبية وفكرية فقط، إنّما هي أدوات يستخدمها العدو لإنشاء كيان سياسي قائم على القتل والتهجير والاعتداء والأضاليل.
لا يتواجد الأدب الإسرائيلي في المكتبات العالمية فقط، بل هو جزء من الخطاب الأيديولوجي للسياسيين الصهاينة، وخاصة مع استعمال الرموز الدينية والشعرية ووضعها ضمن إطار من البلاغة والإستعارات التشبيهية، كما فعل مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل حين قال: “فالتفتَ المسيح إلى موسى مخاطبا إياه: من أجل هذا الصبي كنت أصلّي، إلا أنّه قال لي إذهب واعلن لليهود بأنّني سوف آتي عما قريب لأجترح المعجزات..”. إعتبر هرتزل نفسه بأنّه المختار من قِبل “يشوع”، و”إسرائيل” هي المعجزة. وهنا، يصحّ ذكر، مدى التسويغ الديني في خطابات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن لتبرير غزو العراق في قوله بأنّ “المسيح ظهر عليه قبل الحرب” وردّدتها وسائل الإعلام الدينية التابعة لليمين المسيحي عموماً وللصهيونية المسيحية خصوصاً واستخدامها لنصوص من الإنجيل وأسفار التوراة (العهد القديم) لتبرير الحرب.
الأب الروحي للرواية الأصلية
يعتبر الكاتب والمناضل الفلسطيني غسّان كنفاني، صاحب العديد من الروايات والكتب والمنشورات، حول القضية الفلسطينية والخطر الإسرائيلي، أول من فتح الطريق أمام الروائيين، للإضاءة على الحركة، التي يسعى الاحتلال لترسيخ وجوده عبر الثقافة، من خلال كتابه “في الأدب الصهيوني”، الصادر سنة 1967 عن مركز الأبحاث الفلسطيني، مُجرّداً ومُحدّداً ومعرّفاً عن معنى الأدب الصهيوني وخطورته والمروحة الواسعة التي يشملها. فنحن أمام خوف إسرائيلي متصاعد من الرواية العربية، وترجمتها إلى اللغات الأجنبية، كونها تضرب كامل “مصداقية” الاحتلال أمام شعوب حلفائه. وأكثر ما يدفعهم إلى حالة “الهستيريا” حين تكون الرواية مكتوبة باللغة العبرية نفسها التي من المفترض أنّها لا تحمل إلا معطياتهم وأكاذيبهم.
فإذا كان الاحتلال يدرك أهمية دور الأدب في رسم السياسات وتأليب الرأي العام، فماذا عن الحكومات العربية؟، ما هو حجم ميزانية وزارة الثقافة في بلادنا لدعم الإنتاج الثقافي الحقيقي، وليس بهدف الإستعراض؟، وإلى أي مدى يتمّ دعم الأدباء الفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها؟. أسئلة ربما تكون الإجابات عنها واضحة، فهي تحتاج إلى عمل مستمر، يضاف إلى جهود المؤسسات الثقافية الفلسطينية التي تقاتل باللحم الحي للمحافظة على ذاكرتها.
*كاتب لبناني
وسوم :
أرض الميعاد, الأدب الإسرائيلي, الرواية الصهيونية, العدو الصهيوني, العهد القديم, الكنيست الإسرائيلي, اللغة العبرية, خربة خزعة, صمود, غسّان كنفاني, فلسطين المحتلة, محمود درويش, مخيّمات اللاجئين, ناجي العلي, هيكل سليمان