خالد أبو خالد: أسدل شِعره على المقاومة وغفا

التصنيفات : |
يوليو 14, 2022 5:00 ص

*بسّام جميل

“منذ أن كنّا على طرفيْ بلاد، كلما اتّسعت تضيق، وكلما ضاقت تسلّلنا إليها”

تُطلّ على البلاد كلها إذا ما قرأت في نبض هذا الشاعر كلمات الإنتفاضة، وليست تلك الإنتفاضات المتأخرة فحسب، بل البكر منها، التي ورثها عن أبيه القّسامي ورفعته إلى علياء اللغة ورفعة المقاومة.

كان الفتى الكنعاني فارساً متمرسا، لا كشاعر أو مناضل، بل كإنسان أولاً وأخيرا، فتلك صفات يقدّم عليها إنسانيته ويرفض أن تكون امتيازا.

يقرأ القرآن صباحاً ويلقي الأناشيد الوطنية، في طفولته. تتلمذ على يد الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود في كلية النجاح بنابلس فتعرّف على الفنون وحركة النضال الوطنية.

عمل في مهن عديدة لمساعدة أمه وشقيقته. وقف في المسيرات الرافضة لقرار التقسيم عام 1947.

الخالد

ولد خالد أبو خالد في سيلة الظهر في مدينة جنين عام 1937، إبناً وحيداً للقائد المجاهد محمد صالح الحمد السيلاوي (أبو خالد)، أحد قادة تنظيم الشيخ عز الدين القسّام. استشهد والده في معركة ضد الجيش البريطاني قبل أن يبلغ العاشرة من عمره.

شهد على البلاد وجلجلة طريق آلامها، فكان واحداً من فرسان مقاومتها الناشئة، ليعملَ بجانب انخراطه في الكفاح المسلّح، مذيعاً وصحافياً مثابراً لنصرة القضية والوعي المقاوم.

عرفته الساحة الفنية، شاعرا، أديبا، رساماً ومناظراً في أحيان كثيرة. آمن بكل ما يجب أن يكون صوابا، فقال:

“طالما هناك احتلال في الوطن العربي وطالما أغلب الدول العربية غير مستقلة، شعر المقاومة هو الإجراء والفعل الصحيح لمواجهة هذه الاحتلالات”.

لم يكن الشعر إلا وسيلة ليساهم في تكوين الحاضر ومستقبل الحرية الموعود لفلسطين الأسيرة، فلم يتنازل لأجل الشعر بل دفع به ليكون القلب الذي يدفع بالبندقية. عرفه معاصروه  فنال مصداقية ما فعل وآمن بأنّ من خالَفه أراد الرهان على بوصلة مرحلية، فتصدّى لهذا الهذيان ودافع عن الكلّ الفلسطيني، البوصلة الثابتة.

“تقيس المسافة بين الخيام وبين السلام

ترى القدس مكسورة في المداد ومكسورة في الحطام

 تقيس المسافة للأهل يبتعدون،

ويبقى النخيل يجرّ حقائبه في الحنين الطويل”.

في الخطاب أو الحوار، في الشعر أو اللوحة، نجد خالد أبو خالد قد تفنّن باظهار العبقرية التي تنتجها اللغة المحلية والأهازيج الشعبية  لتكون ضابط إيقاع معرفي غني في كل أعماله، ويقدّم فلسفة الحياة كرؤيا مكتملة التكوين. في بداية كل سطر، تضبط فلسطين إيقاعه، في ألوان اللوحات والعبرات التي تنهال منها لتستصرخ الناظرين وتستحضر في ضمائرهم الصحو والإرادة.

ليس أنّ في استعراض بعض الأبيات من الشعر ما يفي حقّ هذا الشاعر لنعرفه أكثر، بل لنعيدَ ضبط انفعلاتنا وابتهالاتنا على البداية التي ستقودنا إليه بكليته.

سأرتّب الآن الوسائد.. في دمي..

سأوزّع الآن القصائد.. في النحاس..

لكي نودّعَها.. جريحا.. أو جريحة..

إيمان في دمها تنام..

خارج الشعر، صانعه

يحقّ للشاعر أن نُعيد قراءة تاريخه من منظور شخصي أحيانا، كأن نقرأ كل ما كتب وننصت لأي إجابة ضمن لقاء، فنقارن بين ما قال وما فعل في رحلة الشوق الشائك، لنعرفَ أنّ خالد أبو خالد، هذا الكنعاني العنيد، الفدائي الحالم، إنتصر بصمود الصدق في نتاجه الإنساني.

“مستعدّ أن أتنازل عن كل شعري بعد التحرير، لكنّ الشعر والوطن متلازمان، فالشعر يقدّم تاريخ البشرية وعاطفتها، الشعر جزء من تكوين الوطن”

البسيط يصل إلى الجميع

“حاولت أن أضمّن شعري أهازيج شعبية، وكنت الثاني في هذه المحاولة بعد سلمى الخضراء الجيوسي في قصيدتها “أذرع الكتان”، ثم بدأت أنا بعد ذلك، ثم جاء توفيق زياد، أو ربما تزامنّا معاً في هذا التضمين”.

فالتضمين ضروري بحسب رأي شاعرنا، “لأنّ الشعر الشعبي قادر على الوصول، وبالتالي هو رافعة مهمة لشعرنا لكي نوصل ما نقوله إلى المتلقّي العادي، ولكنّني بعد ذلك، وحتى لا تنكسر الموسيقى، حاولت أن أضع أبياتاً من تأليفي من الشعر الشعبي لكي تشكّل أيضاً رافعة من روافع القصيدة.

في الإنتفاضتين الأخيرتين، كتبت حوالي عشرين قصيدة لحنتها وغنّتها فرقة الجذور، وقد وظّفت مطالع شعبية معروفة لدى جميع الناس لكي أبنيَ عليها وأُسقط سياسياً ما هو راهن، وقد نجحت هذه المحاولة إلى حد كبير.

ويمكنني القول، إنّ الذاكرة أدّت دوراً مهماً جداً في بناء قصيدتي، حيث استعدت الكثير من صور القرى والهجرة من القرى، وصور المناضلين، والموروث، ولغة الناس العاديين وحميميتهم وعلاقتهم بفلسطين.. وكان هذا مؤثراً كبيراً في قصيدتي، ويمكن القول، إنّني لست شاعراً فلسطينياً فقط، ولكنّني شاعر عربي بامتياز بمعنى أنّني غنّيت لهذه الأمة بخصائص فلسطينية”.

تسقط البرتقالة في البحر..

أرفعها بيديّ.. تُضيء دمي كالغروب الأخير

فأظلم كالليل.. حين المنازل تنهار فوق المنازل

لا ينتهي الليل.. حين تقنًعني الأغنيات

أراقص مشنقة.. واحتفالاً تؤلّفه القبعات

أرقصي في عراء العراء.. على وطن لا يميّز أطفاله

تصاويرهم في الزوايا

وأحزانهم في هوامش أحزاننا

كلّليهم بحزنك يوم يجيئون من وجدهم

واحمليني([1])

أما في ما شكل وعيه الإنساني والثوري، يقول:

“ضميري الأول هو أبي، ثم ضميري الخاص، يليه الشاعر عبد الرحيم مراد ضميري الثالث، و كل الشهداء ضميري الرابع”

ينادي بشعره صادقا، مؤمنا:

“مقنع أنّ الشهداء، يشهدون ويسمعون ويعرفون كل ما يحدث بعدهم، شهداؤنا أحياء ولا يموتون، هم القضية ولا يمكن أن يزول أثرهم”

ننصت لصوت المقاتل في الشعر: “جسدي يحاورني، أزنّره فيمشي/ هل أنت جاهزة الذرى؟/ جهّزت أسلحتي ونعشي/ باركيني، سأجرّب الموت السريع، لكي يجربّني شهيدا”.

أن تسمع منه ما يؤمن به، كأن ترى مداد سهول فلسطين وجبالها، وأن تقرأ ما عاصره شعرا، كأن تعرف ابتهالات أبناء هذه الأرض وصلاتهم الحاضرة في الدعاء والإندفاع.

إلتحق بصفوف المقاومة وتحمّل مسؤوليات فيها، حيث كان قائد قطاع الشمال في الثورة الفلسطينية في الأردن.

رفض إتفاقية أوسلو، وثقافة الإستسلام التي روّجت لها، فتمّ التعتيم عليه من إعلام سلطة رام الله، حتى وصل الأمر أن سجّلوه في سجلّاتها كـ”متوفَّى” قبل وفاته بسنوات.

يا أيتها الكنعانية

نخبك.. أرفع كأسي وقرنفلي

نخبك.. أرفع جرحي للنجم

وقلبي للهمّ

وصدري لفريق الإعدام

فارق الحياة (جسدا) مطلع عام 2022 في العاصمة السورية، دمشق.

*كاتب فلسطيني


 


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,