فلسطين بين إعلان القدس وقمة جدة و”عتب” عباس

التصنيفات : |
يوليو 19, 2022 7:04 ص

*أحمد حسن

ربما كان ما تسرّب للصحافة العربية من “عتب” للرئيس الفلسطيني محمود عباس على الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال لقائهما الأخير يمثّل، إضافة إلى فتح الأجواء السعودية للطيران الإسرائيلي، أبرز مؤشرين على كواليس الزيارة ونتائجها.

وإذا كان فتح الأجواء يندرج في إطار “التزام واشنطن ببناء هيكل إقليمي لتعميق علاقات “إسرائيل” وشركائها”، بحسب “إعلان القدس”، وهو ما تستبطنه الخطوات التطبيعية “الإبراهيمية” التي بدأت تطرق أبواب الرياض علناً بعد أن اجتازتها سرا، فإن عتب عباس، أو للدقة عتابه، من “التعامل معه بهذه الطريقة”، يبدو كـ”فشة خلق إعلامية” موجهة، في جزء كبير منها، للإستهلاك الداخلي أكثر منه كموقف عملي وواقعي، فالرجل، أي بايدن، كان واضحاً وصريحاً في كل كلمة قالها أو خطوة قام بها أثناء الزيارة التي كانت نتائجها “معلومة سلفاً للشعب الفلسطيني”، كما قال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد نخالة -ويمكن لنا أن نضيف: “ولقيادات وقوى المنطقة بأسرها”- فهي، أي الزيارة، “تسعى لتأمين مصالح الولايات المتحدة وأمن العدو الصهيوني”.. ونقطة على السطر.

بايدن يتبنّى “إسرائيل”

والحال، فإنّ الأدلة على ذلك واضحة وضوح الشمس. تشديد بايدن على “صهيونيته” بالعقيدة ولو لم يكن “يهوديا” بالولادة دليل أول. “إعلان القدس” بمبناه ومغزاه، وتفاصيله، على خطورتها، دليل ثان. استباقه اللقاء مع عباس، بتأكيده “مواصلة نهج أسلافه في تقديم الدعم المطلق لـ”إسرائيل””، واكتفائه بمنح السلطة بعض “الفتات” المالي والخدمي لدفعها في طريق “السلام الإقتصادي” لا السياسي، دليل ثالث. زيارته للسعودية مبنىً ومعنى، بدءاً من “طريق” الوصول إليها وحتى حديثه فيها عن “إتفاق تيران وصنافير” و”تسيير رحلات جوية إسرائيلية إلى السعودية”، بهدف توسيع دائرة التطبيع دليل رابع.

برّر بايدن زيارته إلى السعودية، التي احتضنت الإعلان، بأنّها “تمرين على الواقعية” دفعته إليه هذه اللحظة التي يخوض فيها، وإدارته، والإمبراطورية بأسرها، صراعاً مريراً ومفصلياً على مستوى العالم

الرجل إذاً يتبنّى، كأسلافه، المصالح الصهيونية كاملة، وبالتالي فإنّ “العتب” عليه يبدو “مردودا” علينا، وكان يجب أن يوجّه، ولو لاحقا، لـ”إعلان جدة” الذي كشف، مرة جديدة، إتساع “الهوة” بين تعريفنا وفهمنا، كعرب، لأمننا القومي وقضايانا المحقّة وأولويتها على أجندتنا، أو أجنداتنا، التي يتأكد يوماً إثر آخر اختلافها الجذري بين دولة وأخرى، كما أفصح أيضاً عن قدرتنا الهائلة على إضاعة فرصة جديدة كان يمكن الإستفادة منها لصالح العرب وقضاياهم، وعلى رأسها فلسطين، خاصة وأنّ بايدن برّر زيارته إلى السعودية، التي احتضنت الإعلان، بأنّها “تمرين على الواقعية” دفعته إليه هذه اللحظة التي يخوض فيها، وإدارته، والإمبراطورية بأسرها، صراعاً مريراً ومفصلياً على مستوى العالم.

عباس “خالي الوفاض”

هنا تحديداً وفي هذا السياق الحرج لـ”الإمبراطورية” وأمام هذا “التيه” العربي الدائم، مضافاً إليه “صغر” حسابات و”مطامع” البعض، لم يكن في يد الفلسطينيين شيئاً للمقايضة والمبادلة، وبالتالي كانت “بضاعة” عباس غير مطلوبة في سوق العرض الأمريكي والدولي الحالي، بل إنّ حديثه مع بايدن عن تجديده “مدّ يده إلى “إسرائيل” لتحقيق سلام الشجعان واستكمال ما تمّ التوصّل إليه في اتفاقية أوسلو”، كان يبدو، للحقيقة، حديثاً من زمن آخر، في ما كان رد بايدن خليطاً بين زمنين، الأول هو زمن “عباس” الماضي ذاته حين أعلن أمامه عن اقتناعه بـ”حلّ الدولتَين الذي يشمل قيام دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة ومتّصلة جغرافيا”، والثاني كان الزمن “الإسرائيلي” الحالي حين أضاف مستدركاً أنّ “هذا الهدف قد يبدو بعيد المنال بسبب القيود التي تُفرض على الفلسطينيين”، وألحق ذلك فوراً بطرح جملة مطالب أمنية متّصلة بدور السلطة الأمني في الضفة الغربية.

تأكيد بايدن لقادة الخليج ودول عربية أخرى خلال قمة جدة، أنّ واشنطن “لن تتخلى” عن الشرق الأوسط لخصومها، يستبطن بدوره طلباً ملحاً من تلك الدول بتأكيد مقابل أنّها “لن تتخلى” أيضاً عن واشنطن

والحال، فإنّ ما فضحته الزيارة، بمجملها، من تباين في الأهداف والرؤى كان أقل خطورة مما فضحته من تباين في الإستعدادات والتطلعات وآفاقها وخاصة تلك التي تشي بالفرق بين من يفكر بـ”دولة” -بغض النظر عن موقفنا المبدئي منها- ومن يبحث لاهثاً عن “سلطة” مجرد سلطة. “إسرائيل” مثلاً استعرضت في مراسم استقبال بايدن “منظومات مثل القبة الحديدية ونظام الليزر ومقلاع داوود”، في ما نسيت السلطة أمامه حتى بعض “مطالبها الخمسة” الشهيرة التي استبقت الزيارة بإعلانها، ولم يبقَ في يدها سوى “النق” و”العتب” و”الصورة” الجامعة، وهذه الأخيرة شكلّت أيضاً همّاً أولاً لـ”المملكة” التي كانت لا تريد من الزيارة إلا استعادة “صورة” لقاء “المدمّرة كوينسي” واتفاقيتها الشهيرة وإعادة التأكيد على الإلتزام الأمريكي ببنودها، متجاهلة أنّ “بايدن” الذي يزور المنطقة مثقلاً بالخيبات ليس “روزفلت” المكلّل بنصر الحرب العالمية الثانية، وأنّ العالم كله يتغير لدرجة أنّ “اللوموند الفرنسية” لم تجد أمامها سوى أنّ تنصح صنّاع القرار الغربيين بتلقين شعوبهم “الصبر الإستراتيجي” وهذا شعار خاص، كما يعرف الجميع، بمن يعاني ولا يملك إلا خيارات محدودة، بذلك كان تأكيد بايدن لقادة الخليج ودول عربية أخرى خلال قمة جدة، أنّ واشنطن “لن تتخلى” عن الشرق الأوسط لخصومها، يستبطن بدوره طلباً ملحاً من تلك الدول بتأكيد مقابل أنّها “لن تتخلى” أيضاً عن واشنطن، وتلك مفارقة تحتاج إلى حيّز خاص لشرحها.

بيد أنّ هناك بصيص أمل واحد فضحه “إعلان القدس” ذاته، فأن يخصّص هذا الإعلان فقرة لذكر “المقاومة في فلسطين ولبنان” وإن سلبا، باعتبار استهدافها “على رأس سلّم أولويات الزيارة”، فهذا يعني أنّ هناك ما يُخشى منه، وهذا تحديداً ما يستدعي من هذه القوى زيادة التشبيك بينها ومع من يلتقي معها في المواقف والأهداف، والتمسّك بالمقاومة كطريق أوحد لجعل هذا العالم يضع حقوقنا في قائمة اهتماماته دون عتب أو عتاب، فـ”عندما نتوقف عن مقاومة الاحتلال، ونرضى بالقليل من التسهيلات، فمن سيسأل عنا وعن حقوقنا؟!” كما قال “نخالة” مجدداً.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , ,