في بعض معاني التزامن بين “العلَم” والكشف عن “كفر قاسم“
أغسطس 4, 2022 6:53 ص*أحمد حسن
في مكان ما، يبدو التزامن بين استعار أوار معركة العلَم الفلسطيني والكشف “الإسرائيلي” عن بعض مجريات مجزرة “كفر قاسم”، أمراً طبيعيا، بل وشبه مقصود، فهما، وإن كانا، بالمعنى التاريخي، حدثين قديمين (معركة العلَم بدأت منذ النكبة والمجزرة ارتُكبت عام 1956)، إلا أنّهما يُستعادان اليوم في سياق معركة “إسرائيل” الدائمة على الوعي، نفياً للأول (العلَم) باعتباره رمزاً للهوية الجمعية الفلسطينية، وترسيخا، بل تباهيا، بالثانية (المجزرة)، ولو كاستعادة رمزية “تعويضية” تقول للجميع، أعداءً وحلفاء، أنّها لا زالت قادرة، ولا زالت هي ذاتها لم تتغير، وأنّ النكسات التي تواجهها ليست إلا مصاعب بسيطة وستمضي سريعا.
بهذا المعنى يمكن القول، إنّه لا جديد في ما نُشر عن مجزرة “كفر قاسم”، واعترافات المشاركين بها عادية ولو حفلت ببعض التفاصيل المرعبة حول قتل الشيوخ والنساء والأطفال بدم بارد ودون ذنب ارتكبوه، لذلك ما يجب التوقف عنده هو قول بعضهم إنّ نشرها يعرّض أمن الدولة للخطر، في ما الحقيقة أنّ النشر تحديداً هو من ضرورات ترسيخ “دولة” كانت المجازر فعلاً مؤسساً لها، و”كفر قاسم” ذاتها ليست إلا حلقة وسطى في سلسلة طويلة من أشباهها، “دير ياسين”، “خان يونس”، “اللد”، “جنين”.. وغيرها الكثير.
هنا نقرأ “النشر” -وباعتبار أنّ القتل أسّ في قيام “الدولة” وبقائها واستمرارها- ضرورياً لتعميم صورة القاتل الذي لا يردعه شيء، وبالتالي استعادة صورة ردع بدأت تتزعزع في الوعي الفلسطيني والعربي، ما يعني تزعزع أركان “الدولة” ذاتها، دون أن نغفل عن حقيقة أنّ ممارسة القتل بأبشع طريقة ممكنة كان الطريق الأسهل، والأضمن، للترقّي الشخصي في هذا “الكيان”، وهنا نفهم مثلاً كيف أنّ قائد القطاع العقيد يسخا شدمي، الذي كان الضابط الأعلى رتبة وتمّ تقديمه للمحاكمة بسبب دوره في المذبحة تمّت تبرئته من القتل في نهاية المطاف، وقائد المنطقة الوسطى في زمن المذبحة، الجنرال تسفي تسور، تمّ تعيينه بعد ذلك رئيساً للأركان، وأكثر من ذلك يمكن القول إنّ كل قادة “إسرائيل” خرجوا من رحم المذابح وعمّدوا مواقعهم بالدم الفلسطيني والعربي.
إذا، تلك هي المهمة الأولى “للنشر” اليوم، أي إعادة ترسيخ مخطط الصدمة والرعب، دون أن نغفل عن بعض المهام الجانبية له مثل تبرئة بعض “الآباء” من الجريمة، والظهور بمظهر “الدولة” الطبيعية التي تريد القول إنّ “المجزرة” فعل جنود محددين، ولو كان بعضهم برتبة جنرال، وقد نالوا جزاءهم في “دولة القانون”، ويمكن هنا الإستناد إلى طبيعة الأسئلة التي وُجّهت للمشاركين مع “نبرة لوم” بسيطة جعلتها تبدو وكأنّها موجّهة من محقّق “طبيعي” لمجرم بسيط قتل شخصاً ما بدافع فهم محدَّد لقرار صدر من رئيسه المباشر، ويؤكد ذلك أنّ التبرير غير المباشر الذي ورد في حيثيات “النشر” عن أنّ المجزرة حدثت في اليوم الأول من حرب سيناء عام 1956 بتداعياتها المتوقعة وخوف العدو الإسرائيلي من مشاركة الأردن فيها، وبالتالي فإنّ ما حدث “شيء طبيعي” مثل الدفاع الإستباقي عن النفس، أو هكذا يُراد تكريسه في أذهاننا ووعينا.
وبالطبع، فإنّ الحقيقة مختلفة تماما، فتلك لم تكن “حرب سيناء” فقط بل كانت أبعد من ذلك بكثير، والأردن لم يكن ليشارك وليس هناك من مخاوف “إسرائيلية” جدية من ذلك لأسباب يعرفها الجميع، والمجزرة كانت بهدف التهجير الكامل أما من يبقى من السكان فيُراد لهم، كما قال أحد المشاركين، أن يكونوا “أغناماً ساذجة”.
بيد أنّ الدنيا تغيرت، وإذا كان من الصحيح أنّ “اعترافات” المشاركين بالمجزرة لم تثر ضجة عربية أو عالمية ولم تحرك “نخوة” في رأس مطبّع قديم أو جديد، فإنّ الإستمرار، الفاشل، في محاولة “نفي” العلَم الفلسطيني يعني أنّه لا زال رمزاً لعدم اكتمال الجريمة، وذلك يرقى إلى كونه “اعترافا” علنياً بأنّ الضحية ما زالت تقاوم والمعركة رغم تذرّع البعض بـ”الحرّ والقرّ” لم تنتهِ بعد.
الفلسطيني، عبد الله الحاج، كان يعبّر عن هذه الحقيقة بوعي كامل حين خاطر بروحه لرفع العلَم الفلسطيني وسط مسيرة أعلام نظّمها المتطرفون اليهود في الحي العربي بالقدس، فقد كان “من المهم لي”، كما قال، “إظهار أنّ هذه الأرض هي للفلسطينيين”.
هنا تحديدا، ومع أمثال هذا الرجل، تخسر “كفر قاسم” رمزيتها “الإسرائيلية”، لصالح قول فلسطيني واضح للجميع: لن نبقى أغناماً ساذجة.
*كاتب سوري
وسوم :
أحمد حسن, الأردن, الجنرال تسفي تسور, العدو الإسرائيلي, العقيد يسخا شدمي, العلَم الفلسطيني, اللد, النشر, النكبة, حرب سيناء, خان يونس, دولة القانون, دير ياسين, صمود, مجزرة كفرقاسم