“أبو عطايا”: قائد ألوية صلاح الدّين برتبة شهيد!

*فاطمة شاهين

 هو منهم، من الذين لا نكتب عنهم إلا حين يرحلون. نحفظهم سرّا، ندري أنّهم اليد التي تعمل في الخفاء، ولا نجرؤ على الإشارة إليها بحرف. أمّا وقد دقّت ساعة الشهادة، ورُفع الحجاب، نغدق من اللغة كل الحروف، لنحكيَ حكايتهم، واضحين غير مموَّهين، هو جمال أبو سمهدانة، نهندس حديثنا عنه بدقة زرع عبوة، وتعطيل دبابة، عسانا ننجح في عمليةٍ هي الأصعب إذا ما أردناها ردَّ جميل، والأجمل إذا ما نسجناها حكاية، لتُروى، لترسمَ الطريق.

في وجه الزرع الخبيث زرعٌ طيب!

خمسة عشرة عاماً مرّت على الزرع الخبيث للكيان في أرض فلسطين، حين وُلد هو، في مخيّم المغازي وسط قطاع غزة، في عائلة من جدّ وأب وأعمام ثوريين، كان بيتهم نقطة ثورية مركزية في الفترة التي كان الشهيد محمد يوسف النجار يؤسس العمل العسكري لحركة فتح في الخمسينيات.

وكانت بداية الزرع الطيب حين تفتّح وعي ابن العامين على اعتقال أبيه من قِبل قوات الاحتلال وحرمانه العيش معه طيلة الخمس سنوات من فترة اعتقاله، كما اعتقال أخيه حسن، ثم استشهاد أخويه صقر (1976) وطارق (1981) أثناء عملهم الثوري في لبنان، وكون أخيه سامي من أبرز قيادات حركة فتح في انتفاضة العام 1987.

هذا البيت الذي يشبه فلسطين، بإصراره وعزمه وثوريته، أخرج جمال أبو سمهدانة في العام 1981 ليشاركَ في الهبّة الشعبية في غزة، ومنذ تلك الأيام لم يكتفِ بالعادي، بل قام بإحراق سيارة مدير بنك “هبوعليم” الإسرائيلي، ليُعتقلَ في العام 1982 ويقضي أربعة أشهر في سجون الاحتلال، قبل أن تبدأ رحلته خارج أرض فلسطين.

“أشرف موقع يمكن أن يصله أي فلسطيني هو أن يكون مقاتلا”

هكذا عبّر الشهيد جمال أبو سمهدانة، في إحدى مقابلاته النادرة، وهكذا كان هو أولاً وآخرا. لم يمتهن التنظير يوماً رغم المواقع القيادية التي تولّاها بل كانت حياته نموذجاً لتأسيس الفلسطيني، الشعبي، المقاتل!.

حين خرج من فلسطين مكرَها، كانت الدنيا كلها، بخياراتها، بفرص الراحة فيها والعيش الرغيد، بين يديه. إلا أنّ البوصلة عنده كانت واضحة تماماً نحو فلسطين، فوجّهته إلى كل الدول التي يمكن أن يخدم القضية من خلالها

حين خرج من فلسطين مكرَها، كانت الدنيا كلها، بخياراتها، بفرص الراحة فيها والعيش الرغيد، بين يديه. إلا أنّ البوصلة عنده كانت واضحة تماماً نحو فلسطين، فوجّهته إلى كل الدول التي يمكن أن يخدم القضية من خلالها.

من مصر إلى دمشق، فتونس ثم لبنان حيث عمل في جهاز الأمن الموحّد الذي أسّسه القيادي الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد)، وحيث تعرّف أيضاً بالشهيد القائد عماد مغنية.

لقد أجاد العلم والتعلّم كما أجاد بعدها القيادة والوصول إلى قلوب الناس، فسافر إلى ألمانيا الشرقية والتحق بالكلية العسكرية فيها ليتخرّجَ منها في العام 1989 مهندساً للدبابات، هذه الآلية العسكرية التي سيكون لها معه حكاية خاصة. ثم جاء دور بغداد لتعرفه مقاتلا، مدرّباً للمقاتلين الفلسطينيين في قواعد الثورة الفلسطينية في العراق.

وهكذا استطاع “أبو عطايا” أن يشكّل نموذجاً فريداً للمقاوم المقاتل، قبل أن ينتقل إلى قيادة المقاتلين بنفسه، بل وتأسيس خط سيرهم، بصدق سلوكه وحركته، خطاً لا يحيد عنه أبدا.

“أنا يشرّفني أن أكون عدوّاً للاحتلال الإسرائيلي”

من الطبيعي أنّ شرف القتال كان متوّجاً لدى”أبو عطايا” بشرف العداء للصهيوني، فالقتال كان واضح الهدف دوما، لأجل مقارعة العدو، ولأجل حماية الشعب والمقدسات. لم تكن القوة والتجهيز والتخطيط والتسليح، لدى سمهدانة لأجل اقتتال داخلي، أو لاستعراضات عسكرية فارغة، بل كان هذا العدو، الذي رفض عودته بعد اتفاق أوسلو إلى غزة، هو فقط نصب عينيه.

عمل مع الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وكان على اتصال بكتائب الشهيد عز الدين القسّام، وشكّل للمقاومين أماناً كافياً حتى أوى يحيى السنوار، والقائد محمد الضيف والشهيد يحيى عياش والشهيد محمد عبد العال وغيرهم بعيداً عن عيون الاحتلال

وعاد إلى فلسطين، بسبب اتفاقٍ رفضه “أبو عطايا” رفضاً قاطعا، ورفض كل ما نتج عنه، ولكنّه كان سبباً لمرحلة جديدة تماماً في حياته بدأت في العام 1995. على الرغم من عمله مع أجهزة أمن سلطة الحكم الذاتي، إلا أنّه المقاتل الذي لا يكتفي بمحدودية ما يُتاح له، حتى لو كان مبدعاً لأي حلول بسيطة يخدم بها العمل الثوري، هو الذي لا يميّز بين أبناء شعبه، ولا يقف عند أي تقسيمات حزبية، بل يقدّر تضحيات كل من يتصدّى ويحتضنها ويدعمها بما استطاع، فقد عمل مع الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وكان على اتصال بكتائب الشهيد عز الدين القسّام، وشكّل للمقاومين أماناً كافياً حتى أوى يحيى السنوار، والقائد محمد الضيف والشهيد يحيى عياش والشهيد محمد عبد العال وغيرهم بعيداً عن عيون الاحتلال.

“ليس هناك حنكة من المفاوض الفلسطيني بل الحنكة الحقيقية كانت للمقاتل الفلسطيني”

حين يختار المقاوم أن يعيش الحياة الحقيقية، كما أراد الشهيد جمال، فإنّه سيبقى مفتوح العينين، متّقد الذهن، ليستثنيَ ويبعد أي مغريات أو تهديدات تحيد به عن الطريق، وليُعمِل الحنكة كما عبّر في مقولته، في القتال لا في التفاوض. وقد ظهر ذلك في تعرّضه لخمس محاولات اغتيال من قِبل العدو الصهيوني، كما اتهامات بوقوفه خلف الكثير من العمليات، حتى وصل بهم الإدعاء أنّ الشهيد “أبو عطايا” ينفّذ عمليات لصالح حزب الله في فلسطين المحتلة. وفي العام  1996، تمّ اعتقاله من قبل السلطة الفلسطينية لعام وسبعة أشهر، وبغض النظر عن الأسباب التفصيلية المباشرة لهذا الإعتقال، والتي كانت رفضاً لأي باطل رآه “أبو عطايا” وموقفاً ينصر الحق، ولكن يمكن القول إنّ هذه التهديدات والإتهامات كلها كانت فقط، لاعتقاده فكراً وسلوكاً أنّ القتال والمقاومة هما الحل الحقيقي والوحيد لاسترجاع الأرض وطرد المحتل.

يتأثر أبو سمهدانة بتحرير الجنوب اللبناني في العام 2000، ويزداد يقيناً بطريق المقاومة والشهادة، ليؤسس ورفاقه بعد قيام الإنتفاضة الفلسطينية “لجان المقاومة الشعبية”، وذراعها العسكري ألوية الناصر صلاح الدّين

ويستمر القائد أبو سمهدانة، بأخذ كل الخيارات غير العادية، فيتأثر بتحرير الجنوب اللبناني في العام 2000، ويزداد يقيناً بطريق المقاومة والشهادة، ليؤسس ورفاقه بعد قيام الإنتفاضة الفلسطينية “لجان المقاومة الشعبية”، وذراعها العسكري ألوية الناصر صلاح الدّين.

“لجان المقاومة الشعبية لم يشكّلها جمال أبو سمهدانة”

“لجان المقاومة الشعبية عُملت بدماء الشهداء”، هكذا يُكمل “أبو عطايا” جملته الأولى. يؤكد لنا في مقولته هذه، أنّ هذه اللجان تشكّلت فعلياً من تراكم الفعل المقاوم، فقبل تشكيلها الرسمي، قام أبو سمهدانة ورفاقه بالعديد من عمليات إطلاق النار على السيارات الصهيونية والحواجز، كما فتح ثغرات اشتباك مع العدو، والتي يقول ابنه الأكبر عطايا أنّه كان يأخذ جرافات البلدية ليفتح هذه الثغرات في السياج الفاصل، إضافةً إلى العمل على الإنتاج المحلي للأسلحة، كالأكواع المتفجرة والقنابل اليدوية والعبوات البسيطة.

خطّط مع المقاومين في ألوية الناصر صلاح الدّين عملية صوفا، وعملية موراج، عملية نتساريم وجسر الموت وفتح خيبر وكيسوفيم، كما العمليات التي كانت مشتركة مع بقية الفصائل الفلسطينية

أمّا وقد شكّل مع رفاقه هذه اللجان، التي كانت جامعة وداعمة للفصائل الفلسطينية، فقد جعل منزل والده في رفح مركزاً لاستقطاب مقاتليها، هؤلاء الذين استطاعوا وللمرة الأولى، أن يدمّروا دبابة الميركافا “مفخرة” الصناعة الإسرائيلية، وتكرر ذلك في أكثر من عملية في عام واحد. وعندما نذكر ما قام به وخطّط له مع المقاومين في ألوية الناصر صلاح الدّين مثل عملية صوفا، وعملية موراج، عملية نتساريم وجسر الموت وفتح خيبر وكيسوفيم، كما العمليات التي كانت مشتركة مع بقية الفصائل الفلسطينية، ندرك لماذا كان جمال أبو سمهدانة، الإسم الثاني على لائحة الصهاينة للاغتيالات.

وبدأت الحكاية مجدّدا، كما تمنّى!

تماماً كالأرض التي دافع عنها كان صلباً ومعطاء، زاهداً ترابيّاً في سلوكه وسيرته، أباً حنوناً وقائداً حقيقياً يقود بالفعل لا بالقول والتنظير. كان له من الإلتزام الديني وحفظ القرآن والتزامه الإعتكاف في أوقاته، تلك الروحية العالية، التي جعلها ذخراً له أمام كل المصاعب والتهديدات.

كان نوعاً من القادة الذين ينبثقون من الناس ويبقون بينهم ويعملون لأجلهم، يلبس لباسهم، يمشي في حاراتهم، يأكل طعامهم، يساعد من يحتاج منهم بكل ما استطاع، كان حريصاً على فلسطين وأهلها حتى لحظة الفداء في الثامن من حزيران من العام 2006، لحظة كانت في دعاء الشهيد دوما، ليختمَ حكايته ببداية جديدة، بدايةً كانت فاتحتها وهماً متبدّدا، وخطّ سيرها مستقيما، كما كانت حياته، خطًّاً لا يعرف التعرّج ولا الإلتفاف ولا التقسيم.

*كاتبة لبنانية

المصادر

1.أبو سمهدانة أول قائد ميداني يتولى منصبًا أمنيا. (2006). مأخوذ من  موقع الجزيرة الالكتروني:

أبو سمهدانة أول قائد ميداني يتولى منصبا أمنيا | أخبار عربي | الجزيرة نت (aljazeera.net)

2.الجعبري, كمال. (2022). جمال أبو سمهدانة:جنرال المقاومة. السبت 11 حزيران 2022، مأخوذ من موقع صحيفة الأخبار الإلكتروني

3.حفل تأبين للشهيد “أبو عطايا”.. فيديو يحكي سيرة مؤسس لجان المقاومة الفلسطينية. (2022). مأخوذ من قناة الميادين على موقع يوتيوب:

حفل تأبين للشهيد “أبو عطايا”.. فيديو يحكي سيرة مؤسس لجان المقاومة الفلسطينية – YouTube

4.حفل تأبين للشهيد “أبو عطايا”.. وتأكيد خيار المقاومة المسلحة حتى التحرير. (2022). مأخوذ من موقع الميادين نت:

حفل تأبين للشهيد “أبو عطايا”.. وتأكيد خيار المقاومة المسلحة حتى التحرير | الميادين (almayadeen.net)

5.حكاية الشهيد “أبو عطايا”.. مهندس المقاومة الفلسطينية. (2022). مأخوذ من موقع الميادين نت:

حكاية الشهيد “أبو عطايا”.. مهندس المقاومة الفلسطينية | الميادين (almayadeen.net)

6.السيرة الذاتية للشهيد الشيخ جمال أبو سمهدانة أسد بيت المقدس والأمين العام للجان المقاومة الشعبية في فلسطين. (آخر تحديث للموقع 2022). مأخوذ من موقع ألوية الناصر صلاح الدين الإلكتروني:

الشهيد القائد: الشيخ جمال أبو سمهدانة (أبو عطايا) – ألوية الناصر صلاح الدين (alweya.ps)

7.عيد، عماد. (2006). أبو عطايا.. العاشق للشهادة. أرشيف من:2005-2008، [مقالة وردت في صحيفة الانتقاد/خلف القناع، العدد 1166، 16 حزيران 2006]. مأخوذ من أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018:

أبو عطايا.. العاشق للشهادة (alahednews.com.lb)

8.القائد البطل جمال أبو سمهدانة (أبو عطايا). (2015). [فيديو يروي سيرة حياته]، مأخوذ من قناة Glowing Lolla على موقع اليوتيوب:

القائد البطل جمال أبو سمهدانة (أبو عطايا) – YouTube