ثرثرة قبل المجزرة: في ذكرى “تل الزعتر”

التصنيفات : |
أغسطس 12, 2022 7:14 ص

*تهاني نصّار

إنّها الساعة الحادية عشرة ليلا، أجلس خلف شاشة الكومبيوتر الذي رافقني بإخلاص خلال سنتَي دراسة الماجستير. تنقّل معي كثيراً بين مكتبي في ضاحية بيروت الجنوبية، وصفوف طلابي في الجامعة اللبنانية الدولية، وبين مقعد الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت. بات معي ليلة حتى طلوع الصبح في مكتبة “Jafet” (نعمة يافث)، ونسيته مرة في مطعم الجواد، وتناسيته مراتٍ عديدة عند أهلي في مخيّم برج البراجنة حتى أبتعد عن مخطّط بحثي الذي عدّلته غير مرة. “نحن نثرثر كثيرا.. ومع ذلك نعجز عن وصف مشاعرنا كما يجب”، أومئ برأسي تأكيداً على كلام ماركيز، الكاتب الكولومبي الذي أعاد تذكيرنا بالواقع المدهش، لكنّنا غالباً ما نغفل عنه باحثين عن الخيال والموروثات والأساطير لنقصّ حكايات غريبة نفسّر بها ما نشهده في الحاضر. ها أنا أقرأ  تفاصيل اليوم الأخير من حصار  مخيّم تل الزعتر، المدوّنة في مذكرات الدكتور يوسف عراقي[1]، وأسأل بعفوية: كيف خرج سالماً من كل هذا!.

أستعير ذاكرة أمي، وأجد سؤالي ساذجاً لدرجة أنّي أحاول حذفه. أمي ناجية من مجزرة تل الزعتر. المجزرة التي ارتُكبَت في يومٍ مثل غد، لكن منذ ستةٍ وأربعين عاما. أمسكَ بذراعها أحد المسلّحين وطلب منها خلع أقراطها الذهبية، فلم تستعجل إعطاءه ما يريد؛ ليس شجاعة من طفلة في العاشرة من عمرها، إنّما لأنّ “الحلق” هدية من أبيها الذي حمل السلاح دفاعاً عن المخيّم. لم تره منذ أيام، وسمعتْ الموجودين في الساحة يقولون إنّ الفدائيين سيرحلون عن طريق الجبل، ومنهم من قال دون اعتبار (مراعاة) للأطفال: “رح يصفّوهن عن طريق الجبل”. وما حاجة الإعتبار في مخيّم كان يشهد آلاف القذائف يوميا؟، ما نفع الإعتبار والكلام الموزون/الدبلوماسي الذي اكتسبته من نقاشات غرفة 203 في مبنى “Nicely”؟. حول طاولة عريضة يترأس طرفها أستاذ “بوريس”، كنّا نناقش مقالاً لإدوارد سعيد وفيلماً لبنانيا. يومها أبديتُ رأيي بـ”راديكالية” (حسب ما رآه معظم الحاضرين) في تعليقي على فكرة وجود أعمال أكاديمية/ثقافية مشتركة مع “إسرائيليين”. رمقتْني زميلتي بأن أصحّح موقفي (أن أنهيَ النقاش بلا خسائر). لم أكن ألقي خطابا، ولم تكن مشاركتي أكثر من بضعة جمل وتعليقات، ولربما كنتُ غير قلقة حينها لأنّ المحاضر من مناصري القضية الفلسطينية.

منذ نيسان عام 1975، أُعلنت المعركة، وتحدّد الهدف: إزالة الوجود الفلسطيني من بيروت الشرقية.

أتذكّر الرجل من آل سالم، فقد ربطوه بين سيارتين، نصفه الأول رُبط بإحكامٍ في سيارة شاب مسلّحٍ يرتدي كنزة سوداء، أما النصف الآخر فبقي لوحده معلقاً في مؤخرة السيارة الثانية.. يخفق قلبي وأنا أتذكّر المشهد.. أي مشهد؟، كيف أسترجعه من ذاكرتي وأنا لم أكن قد وُلدتُ بعد؟[2] أجد لقطات نادرة من “تل الزعتر”، وأخرى مصوّرة مع ناجين من المجزرة في فيلم توثيقي[3] بالأبيض والأسود للمخرجَين الراحلَين مصطفى أبو علي وجان شمعون. نعم! حادثة بوسطة عين الرمانة التي راح ضحيتها ثلاثون شهيداً من الفلسطينيين واللبنانيين، من بينهم أحد أقرباء والدتي. منذ نيسان عام 1975، أُعلنت المعركة، وتحدّد الهدف: إزالة الوجود الفلسطيني من بيروت الشرقية. بدأ الهجوم على تجمّع يُدعى جسر الباشا، ثم مخيّم الضبية الذي كان يسكنه فلسطينيون مسيحيون.. “ممم”، إذاً لم تكن حرباً دينية/طائفية! ولكنّهم أقاموا حواجز وأمسكوا عند أحدها جدّي الذي عبر الخطوات الأولى مدعياً أنّه “طوني” إلى أن نادى عليه أحد العابرين بإسمه “فيصل”. كان هذا جلّ ما جمعته جدتي من معلومات عن زوجها.. أو فقيدها. ليس ميتا، ما تزال تنتظر عودته حتى اللحظة، بعكس إبنة عمها وأخت زوجها، فتلك حكايتها كلها “صبر”! سحبوا ولدها من حضنها، وساقوا زوجها إلى حائط الملجأ.. أُنهي حكايتها هنا، فهي مذ حينها تبسم وتضحك وتُحدّث في أي شيء سوى “تل الزعتر”.

لم يبقَ منهم أحد. قرر المسلّحون إخلاءَ سبيل الطبيبَين فقط، بينما أعدموا الطاقم التمريضي كله. أبكي مع الدكتور وأنا أفكر: من أين كل هذه الوحشية؟

يتحدّث شاب عن مستشفى المخيّم أثناء الحصار، تدمع عيناه، إنّه الدكتور يوسف، عرفته من عينيه؛ ما زالتا دامعتَين حتى اليوم. يتحدّث إلى الكاميرا ويصف فيها كيف كانوا يسعفون الجرحى هو وزميله الدكتور عبد العزيز بالإضافة إلى عشرة ممرضين وممرضات.. يصمتُ كأنّ شيئاً يأكله من الداخل ثم يصف وجه “خالد” الممرض الذي كان يعمل معه.. لم يبقَ منهم أحد. قرر المسلّحون إخلاءَ سبيل الطبيبَين فقط، بينما أعدموا الطاقم التمريضي كله. أبكي مع الدكتور وأنا أفكر: من أين كل هذه الوحشية؟.

“وحوش”.. كلمة سمعتها كثيراً على لسان أم عزيز، جارة جدتي، وهي تصف خاطفي أولادها الأربعة إثر مجزرة صبرا وشاتيلا. وتقول كذلك عن شارون.. وعن العصابات الصهيونية التي طردتها من دارها في عمقا. “وحوش”.. هي الكلمة التي تمتمتُ بها بعفوية حين حدّثنا بوريس عن منظمات الـ[4]KKK في بلاده. أعود للسؤال: من أين كل تلك الوحشية؟ فأتذكّر سليمان الحلبي، وجمجمته المحفوظة في الـ Palais de Chaillot  في باريس.. ويضغط على ذاكرتي بحثٌ للكاتب منير العكش عن الفلسطينيين والهنود الحمر[5]. الهنود الحمر.. هناك كانت الوحشية.. أربعة قرون من المقاومة وكلام الزعيم “تكومسه”: “ليس أمامنا سوى أن نقاوم أو ننتظر الإبادة”. أبادوهم بوحشية كان أقلها مساعدات مرسلة إلى قبائل من السكان الأصليين، فيها ثياب وأغراض تحمل أمراضاً جلدية.

في الفيلم عينه، طفلة لا تتجاوز الستة أعوام تُدعى جورجيت، تجيب على الأسئلة بكلماتٍ أكبر من عمرها، وتصف ما حدث لأمها : “..أمي شحطوها على الأرض وقتلوها ورا الحيط”.. سألتها الفتاة: “إنتِ وين كنتِ؟”، فأجابت: “مع أمي، ولما صرخت بدّي إمي، قالولي تعي نفرجيكي ياها ورا الحيط”. “الحيط له آدان” تقول جدتي وهي تتحدّث بصوتٍ خفيض. لا تسمح لأحد بأن يتحدّث في السياسة.

*كاتبة وأكاديمية فلسطينية


[1]  طبيبٌ عمل في مستشفى تل الزعتر مع زميله د. عبد العزيز اللبدي ودوّن مذكراته “يوميات طبيب في تل الزعتر” (الطبعة الثالثة صدرت في حيفا، 2016) عن الحصار وإسعاف الجرحى ووضع المخيم والمجزرة.

[2]  حسب نظرية “ما بعد الذاكرة” للباحثة والأكاديمية في جامعة كولومبيا ماريان هيرش، هي العلاقة التي تحملها الأجيال اللاحقة تجاه ذكريات الناجين من صدمات جماعية كالمجازر والحروب.

[3] إنتاج مؤسسة السينما الفلسطينية ويونيتيل فيلم.

[4] منظمات “كو كلوكس كلان” التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، نشأت في أميركا وكانت تقوم بتعذيب وإعدام ذوي البشرة السوداء من أصل أفريقي.

[5]  كتاب “دولة فلسطينية للهنود الحمر”، إصدار دار رياض الريس، 2015


وسوم :
, , , , , , , , , , , ,