الإعدامات في قطاع غزة، بين الحاجة المجتمعية والمخالفة القانونية

التصنيفات : |
سبتمبر 6, 2022 7:59 ص

*أحمد الطناني – غزة:

أعلنت وزارة الداخلية في قطاع غزة في بيان لها أنّه تمّ تنفيذ أحكام بالإعدام في خمسة فلسطينيين حيث نصّ البيان أنّ “وزارة الداخلية والأمن الوطني نفّذت صباح الأحد، أحكاماً قضائية بالإعدام على خمسة من المدانين في قضايا أمنية وجنائية”، موضحة أنً “اثنين منهم أُدينا بالتخابر مع الاحتلال” والثلاثة الآخرين “أُدينوا بارتكاب جرائم قتل على خلفية جنائية”.

الحاجة المجتمعية كمدخل ومبرّر

سبق هذا الإعلان والتنفيذ الذي يذكره الإعلان، تهيئة للرأي العام في قطاع غزة، إنطلق فيه القطار من مشاركة وفد يمثّل مكونات العمل العشائري في قطاع غزة في اجتماع خاص مع لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية، حيث تركزت هذه المشاركة على مطالبة القوى السياسية والفصائل الوطنية الضغط من أجل إنفاذ الأحكام القضائية بعد استيفاء كامل مراحلها، خاصة الصادرة بحقّ عدد من الجناة بالقتل العمد في القضايا الوطنية والمجتمعية.

ممثّلو العشائر برّروا مطالبهم برؤيتهم بأنّ تنفيذ الأحكام يشكّل “رادعاً لكل من تسوّل له نفسه التجرّؤ على الدماء البريئة” وأنّ المسؤولية المجتمعية تستوجب سرعة إنفاذ القانون وتطبيق أحكام القضاء وبشكل خاص الإعدام للمتورطين في الدم الفلسطيني.

تلا هذا الاجتماع مجموعة من المواقف العلنية الصادرة عن كُتّاب رأي وقوى وشخصيات يؤيّدون هذا التوجه، في ما كان واضحاً أنّه تهيئة وتجهيز للرأي العام لتنفيذ هذه الأحكام، وهو ما يعبّر عن رغبة لدى حركة حماس الحاكمة في القطاع بتظهير أنّ تنفيذ الأحكام جاء استجابة للضغط المجتمعي والنخبوي في قطاع غزة وليس مرتبطاً بحسابات حمساوية محددة.

المخالفة القانونية

في واقع الأمر يُعتبر “تنفيذ أحكام الإعدام” من أكثر العناوين إلتباساً واثارة للجدل، فبالرغم من أنّ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد صادق على قانون إلغاء عقوبة الإعدام في القانون الفلسطيني في حزيران/ يونيو 2018 كشرط لانضمام فلسطين لعدد من المواثيق والمعاهدات الدولية، إلا انأ حركة حماس التي تحكم القطاع لم تتعامل مع هذا القرار على أنّه نافذ وأكد نوابها بالمجلس التشريعي “المنحل” أنّهم سيبقون داعمين لإنفاذ أحكام الإعدام، بالرغم من أنّ الوضع القانوني في الأراضي الفلسطينية ملتبس أساسا.

في فلسطين لا يوجد قانون عقوبات موحّد، وإنّما هناك عدة قوانين، ففي الضفة الغربية تطبّق المحاكم قانون العقوبات الأردني رقم (16) لسنة 1960، وفي غزة تطبّق قانون العقوبات الإنتدابي رقم (74) لسنة 1936 المعدّل بأمر الحاكم العسكري المصري رقم (555) لسنة 1957، وتطبّق المحاكم العسكرية، ومحاكم أمن الدولة أحيانا، قانون العقوبات الثوري لمنظمة التحرير لسنة 1979، إضافة إلى ذلك توجد مجموعة من القوانين الخاصة المكمِّلة لقوانين العقوبات تطبَّق في الضفة الغربية وقطاع غزة، كقوانين العقاقير الخطرة وقانون المفرقعات، والقوانين المتعلقة بالأحداث.

“لا يُنفَّذ حكم الإعدام الصادر من أية محكمة إلا بعد التصديق عليه من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية”

المعضلة الرئيسية التي لطالما حالت دون تنفيذ أحكام الإعدام بشكل دوري رغم أنّ عدد أحكام الإعدام منذ إنشاء السلطة الفلسطينية بلغ (270) حكما، منها (240) حكماً في قطاع غزة، و(30) حكماً في الضفة الغربية، ومن بين الأحكام الصادرة في قطاع غزة، صدر (181) حكماً منها منذ الإنقسام الفلسطيني في العام 2007، إلا أنّ غالبها لم يُنفّذ بسبب الشرط القانوني المتمثّل بمصادقة الرئيس الفلسطيني على أحكام الإعدام لتنفيذها، حيث نصّ عدد من القوانين على ذلك ومنها قانون الإجراءات الجزائية لسنة 2001، والقانون الأساسي الفلسطيني لسنة 2003، والذي نصّ بشكل لا يقبل التأويل على عدم جواز تنفيذ هذه العقوبة دون مصادقة، حيث نصّت المادة (109) على:

“لا يُنفَّذ حكم الإعدام الصادر من أية محكمة إلا بعد التصديق عليه من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية”.

لم تكن هذه الإعدامات هي الأولى منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، فهي نفّذت (33) حكماً منذ الإنقسام دون مصادقة الرئيس الفلسطيني، الذي أدان عمليات الإعدام “خارج القانون” التي تنفّذها الجهات الحكومية في القطاع.

ومن جانبه، أصدر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان موقفاً يدين فيه أحكام الإعدام ويطالب بالتقيّد بالقانون في ضرورة مصادقة رئيس السلطة على أحكام الإعدام، مشدداً على أنّ البروتوكول الثاني للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ملزم للسلطات في فلسطين بما فيها قطاع غزة، وبالتالي “يجب وقف العمل بعقوبة الإعدام تمهيداً لإلغائها من التشريعات”. ولذا، يطالب المركز السلطات في قطاع غزة بعدم استخدام عقوبة الإعدام واستبدالها بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة.

هل تحمل الإعدامات دلالات أخرى؟

في واقع الأمر، لا يمكن النظر إلى الإعدامات بالشكل المجرّد، ولا التعامل مع الحدث بأنّه مجرّد تنفيذ لمجموعة من الأحكام المتراكمة، للاعتبارات القانونية الملتبسة التي عرّج عليها المقال سابقا، ولاعتبارات الإنتقائية في التنفيذ والاختيار.

لا يمكن إغفال أنّ بعض الجرائم التي وقعت في قطاع غزة كان لها أثر كبير على التماسك المجتمعي، وأنّ البُعد والوزن العشائريين ما زالا حاضرين ووازنين في العديد من المعالجات والقرارات وحتى السياسات، وأنّ الحفاظ على النسيج المجتمعي قد يحتاج إلى إجراءات كبرى ربما ينتج عنها تحقيق هدفيْ الردع الداخلي وحقن الدماء وإيقاف أي تبعات ثأرية للعائلات أولياء الدم.

إنّ شعباً يرزح تحت الاحتلال يحتاج إلى أقصى ردع ممكن بحقّ العملاء والمتعاونين مع الاحتلال، وبشكل خاص المتورطين في تقديم معلومات نتج عنها استشهاد مواطنين نتيجة استهداف الاحتلال، فهو خيار يُذكّر كل متخابر بمصيره المحتوم، ويعزّز من هيبة المقاومة وردعها

ومن جهة أخرى، فإنّ شعباً يرزح تحت الاحتلال يحتاج إلى أقصى ردع ممكن بحقّ العملاء والمتعاونين مع الاحتلال، وبشكل خاص المتورطين في تقديم معلومات نتج عنها استشهاد مواطنين نتيجة استهداف الاحتلال، فهو خيار يُذكّر كل متخابر بمصيره المحتوم، ويعزّز من هيبة المقاومة وردعها.

لكنّ التساؤل المهم هو حول الآلية التي جرى فيها اختيار من تمّ اعدامهم، خاصة وأنّ التفاصيل القليلة التي تمّ الإعلان عنها تفتح المجال لتساؤلات عديدة حول وجود انتقائية في الإختيار!، فسنوات الجرائم وتاريخ الاعتقالات وإصدار الأحكام وسنوات تأخر التنفيذ متفاوتة ومتباعدة ما بين كل حالة وأخرى، فما بين مجرم موقوف منذ العام 2003 وموقوف في العام 2022 مدة زمنية تقارب الـ19 عام!.

الأكيد أنّ اختيار الحالة الأحدث، له اعتباراته الداخلية في حماس، فالقاتل يعمل في الأجهزة الأمنية وأحد أعضاء الحركة، والمقتول كذلك هو كادر بالحركة ويعمل بالأجهزة الأمنية الحكومية، وبالتالي تريد حماس إيصال رسالتين أساسيتين من تسريع عملية الإعدام لمنفّذ الجريمة: الأولى، للمجتمع، بأنّها لن تتهاون مع من يتجاوز الدم الفلسطيني من أعضائها وعناصرها وسيكونون أول من يُطبَّق عليهم القانون.

والثانية، هي داخلية لأعضائها وعناصر الأجهزة الأمنية، وهدفها الردع بأنّ العقوبة ستكون مضاعفة ولن تشكّل عضويتهم في الحركة أو عملهم في الأجهزة الأمنية حصناً لأحد في حال تجاوز القانون، فعدد مسلحي حماس والأجهزة الأمنية في القطاع كبير جدا، ولا مجال للمخاطرة بأن يكونوا هم مصدر أو جزء من أي فوضى وفلتان باستخدام السلاح، واستسهال التعدي على الدم ستكون نتائجه وخيمة على القطاع كمجتمع، وعلى المقاومة كبيئة وكصورة.

الأساس أنّ أي خطوة من هذا القبيل يجب أن تخضع لموازنة الأولويات الوطنية بما يحفظ السلم المجتمعي، ويراعي الردع المطلوب للعملاء والمتجرّئين على الدم الفلسطيني، وأن لا يظهر القطاع وكأنّه غابة ظلامية يسودها القتل والإعدامات وتتحوّل هذه الأحداث إلى مادة تُستخدم ضده

لكن من غير الواضح حتى الآن، إن كان إعدام العملاء في اللحظة الراهنة، بعد ما يقارب الشهر على خروج القطاع من جولة قتالية مع الاحتلال تضمّنت استهدافاً لقيادات بالمقاومة، أي وجود دور للعملاء في تتبّعهم ورصدهم وتسهيل استهدافهم، إضافة للمعركة الأمنية المستمرة ما بين المقاومة والاحتلال في إطار محاولات الاختراق المستمرة عبر زرع العملاء والجواسيس على الأرض، فهل يمثّل الإعدام رسالة عن ترسيخ نهج أكثر قسوة وحسماً في التعامل مع ملف العملاء، وأنّ الأيام القادمة ستحمل المزيد من الأخبار عن تنفيذ الأحكام القضائية بعملاء آخرين، أم أنّ هذه الإعدامات ستصبّ في خانة الحملة الحالية فقط.

ختاما، الأصل وبسبب الوضع المُعقّد فلسطينياً سواء على الصعيد القانوني وأثر الإنقسام على المشهد السياسي وأزمة الشرعيات، أو على الصعيد الوطني واعتبار المشروع الوطني الفلسطيني هو مشروع تحرّر ومقاومة ويخضع للاعتبارات الثورية في المعالجات والإجراءات، فالأساس أنّ أي خطوة من هذا القبيل يجب أن تخضع لموازنة الأولويات الوطنية بما يحفظ السلم المجتمعي، ويراعي الردع المطلوب للعملاء والمتجرّئين على الدم الفلسطيني، دون أن يتحوّل تنفيذ الإعدامات “خارج إطار القانون” وفق المؤسسات الحقوقية، هو صفة سائدة فالمصلحة العليا لقطاع غزة، وللمقاومة، أن تكون ضوابط القانون الدولي والمعايير الإنسانية حاضرة في إدارة الشأن العام، وأن لا يظهر القطاع وكأنّه غابة ظلامية يسودها القتل والإعدامات وتتحوّل هذه الأحداث إلى مادة تُستخدم ضده.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,