معنى أن تشرقَ الشمس من الضفة

التصنيفات : |
سبتمبر 7, 2022 7:49 ص

*أحمد حسن

الضفة الغربية تشتعل. الأرقام عن العمليات الفدائية المتتالية تقول ذلك -خلال الشهر الماضي وقعت 10 عمليات إطلاق نار وطعن، وأكثر من 60 عملية منذ بداية العام-. حراك الضفة، برمزيتها الشديدة، يبدو كخطر داهم، ووجودي، على “إسرائيل”، الوقائع الثابتة لا تكذب في هذا المجال.

بهذا المعنى لا يمكن، في التحليل الاستراتيجي، قراءة عملية غور الأردن الأخيرة في الضفة الغربية كعملية عادية تُقاس بنتائجها الميدانية فحسب، بل هي عملية ذات رمزية هائلة في حرب الوعي والأسس والركائز التي برعت فيها “إسرائيل” سابقاً وتحاول المقاومة، بنجاح، منافستها أيضاً في هذا المضمار، “وخصوصاً أنّ العملية وقعت في أكثر المناطق حساسية لدى الاحتلال أمنياً وجغرافياً وسياسيا، حيث تنتشر أكثر من 38 مستوطنة، والعشرات من المواقع العسكرية والميادين لتدريب الجيش الإسرائيلي”.

والحال، فالجميع يعرف بأنّ القدرة على تحقيق الأمان الدائم هي أسّ فكرة “إسرائيل” عن نفسها وعن بقائها، كما هي أسّ فكرة الآخرين عنها إعجاباً أو حسداً أو خوفا، وأنّ أسّ فكرة “أوسلو” في الذهنية الإسرائيلية هي تحقيق هذا الأمن بيد الفلسطينيين أنفسهم وتحديداً في الضفة الغربية، الأمر الذي يعني أنّ أسّ فكرة مقاومة “إسرائيل” يجب أن يُبنى على دحض فكرة أمانها وإظهار تهافتها وخاصة في الضفة الغربية، وذلك تحديداً هو دور، ومغزى، العملية الأخيرة التي أضافت، بمجرد حدوثها، قلقاً إسرائيلياً جديداً على قلق سابق ليس له في المحصّلة النهائية إلا زعزعة ثقة “الدولة” بمستقبلها، وبالتالي بقادتها وعسكرها ومستوطنيها المسلحين حتى الأسنان، ومناطق أمانها كافة، بل واتفاقيات التنسيق الأمني ورجاله في الضفة أولا.

قامت “إسرائيل” على كل العنف الممكن وبكل الوحشية المعروفة كي تزرع الخوف والقلق في نفس الفلسطيني، ليس كي تنفيه عن أرضه فقط، بل لترسّخَ في وعيه عدم جدوى المقاومة

فمنذ اللحظة الأولى قامت “إسرائيل” على كل العنف الممكن وبكل الوحشية المعروفة كي تزرع الخوف والقلق في نفس الفلسطيني، ليس كي تنفيه عن أرضه فقط، بل لترسّخَ في وعيه عدم جدوى المقاومة، وتحمله على الرضوخ طائعاً تحت شعار موروث معروف يتحدث عن العين والمخرز. “أوسلو” كانت نتاجاً بطريقة ما لهذا السعي ولهذا الموروث.

ومنذ اللحظة الأولى كانت هناك عيون فلسطينية وعربية لم تسلّم بهذه المعادلة، بل وسّعت حدقتها في وجه المخرز إلى آخر مدى، إلى تخوم الموت بل وصولاً إليه، إيماناً منها بأنّ ذلك سيفتح عيوناً أخرى أكثر عدداً على أهمية المقاومة وأولويتها، ولهؤلاء، وليس لسواهم، يدين الفلسطينيون ببقاء قضيتهم على قيد الحياة، بل ويدين لهم بالوجود حتى من استمرأ السلطة بمختلف أشكالها على حساب الوطن.

بهذا المعنى، يصبح مردود العمليات الفدائية، وتحديداً في الضفة، كبيراً جداً حتى لو كانت نتيجته الميدانية ضعيفة، فالمهم إثارة القلق الدائم عند صنّاع القرار في الكيان المحتل، فكيف إذا كان هذا القلق بسبب عملية، بل موجة عمليات متصاعدة، في “منطقة كانت مضمونة”، عملية جاءت لتمحوَ مع أولى طلقاتها نتائج عملية “كاسر الأمواج” التي هلّل لها جيش الاحتلال قبل أشهر، ولتضيفَ أيضاً لبنة في سياق متصاعد للعمليات في الضفة والذي يشي بحسب أحد المحللين بأنّ “الأمور خرجت عن السيطرة”، وأنّ “كل العمل الإستخباري الذي تقوم به “إسرائيل” والعمليات الخاطفة من اعتقالات واغتيالات لم تنجح في منْع العمليات”، وهذا ما يفسّر انتقال القلق من المستويات الأمنية والإستخباراتية العليا إلى المستوى السياسي، فهؤلاء يعون جيداً أنّ اشتعال إنتفاضة شعبية في الضفة الغربية المحتلة وفي هذا التوقيت تحديداً يشكّل خطراً وجودياً على “إسرائيل” أكثر من كل التهديدات الأخرى، سواء كانت حرباً مفتوحة مع إيران بسبب إتفاقها النووي أو محدودة مع حزب الله بسبب “كاريش” أو غيره، فهاتان الحربان إن حدثتا ستكونان، رغم شراستهما، حربين مع خارج يمكن فعل الكثير معه، أما اتساع رقعة المقاومة، وبهذه الجرأة اللافتة، من “جنين إلى نابلس إلى سلواد إلى الأغوار وأريحا” أمر لا يمكن مواجهته إلا بخسائر مادية ومعنوية كبرى خاصة وأنّ هذا الإتساع الذي يشي، بحسب محلل سياسي، “بوجود مساعدة تدلّ على أنّ العمليات بدأت تُنظّم” قد يجر إليه “ساحات” فلسطينية أخرى ليحقّقَ وحدتها الحقيقية في مواجهة مفتوحة مع المحتلّ وتلك كارثة الكوارث على الكيان الغاصب.

فالضفة التي صُرفت فيها المليارات من مال البترودولار الأسود لشراء مياه وجوه رجال وربط وجودهم المادي والمعنوي بالكيان الصهيوني، هذه الضفة سيكون عليها مواجهة تحدّ مزدوج، الإسرائيلي من جهة، ورجال التنسيق الأمني وعلى رأسهم من يتسابقون اليوم لخلافة عباس

بيد أنّ هناك ما يجب التنبيه إليه، فالضفة التي صُرفت فيها المليارات من مال البترودولار الأسود لشراء مياه وجوه رجال وربط وجودهم المادي والمعنوي بالكيان الصهيوني، هذه الضفة سيكون عليها مواجهة تحدّ مزدوج، الإسرائيلي من جهة، ورجال التنسيق الأمني وعلى رأسهم من يتسابقون اليوم لخلافة عباس، والذين سيكون عليهم إظهار جدارتهم عبر التسابق في التضييق على المقاومة والتنكيل بها بكل الطرق والوسائل الممكنة وصولاً إلى خنقها.

المقاومة في الضفة تتصاعد، ومعها قلق “إسرائيل” الوجودي، والنخر يتسع في أسس الكيان والكيانات الملحقة به، لذلك على المقاومة، وهي ليست في حاجة لدرس من أحد، أن تعتبر من “وسوى الروم خلف ظهرك روم”، وتقاتل على جبهتين، ذلك قدرها، لكنّه أيضاً طريق إجباري لكل مقاومة ناجحة.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , ,