الرسوم المتحركة الفلسطينية… إعادة “تحريك” الواقع

التصنيفات : |
سبتمبر 14, 2022 8:02 ص

*وسام عبد الله

الرسوم المتحركة ليست وسيلة للترفيه فقط، فصُناع هذا العالم يدركون كيف تؤثّر الصورة والصوت والشخصيات، على خيال المتلقي وقدرته على تحليل المواقف، فهي تقدّم نفسها إما بشكل واقعي وواضح بالمسميات، أو تذهب نحو الرمزية في طرح المواضيع عبر سرد القصة في عوالم لا تشبه واقعنا، وتمتلك فلسطين كل عناصر القصة التي تُبنى عليها مقومات العمل في الرسوم المتحركة، لما تحمله من قيم وأحداث لشعب يرزح تحت الاحتلال، في الواقع وليس في الخيال.

المتلقي.. إيجابي

حين تجلس العائلة لمشاهدة فيلم رسوم متحركة، يتماهى المتلقي في كثير من الأحيان مع الشخصيات لدرجة التضامن معها في المواقف، وهو ما يظهر بشكل واضح لدى الطفل في تقليده بطل القصة، في المصطلحات واللباس والقيم التي يدافع عنها، أو يجد في الحكاية ما ينقصه في حياته مثل فقدانه أحد والديه في الصغر مما يجعله يتعاطف مع فيلماً يروي ما يشبه حياته الشخصية.

إسقاط الفكرة السابقة على القضية الفلسطينية هو عملية وضع تصور لتفاصيل الحياة التي يعيشها المواطن الفلسطيني في الداخل، واللاجئ في مخيّمات الشتات، وتقديمها من زاوية مختلفة. فنحن أمام عالم يوثّق المصطلحات والرموز عبر اللغة، ويعطي صورة تفصيلية من خلال الثياب والمكان وحتى نظرات العيون، وكون الرسوم المتحركة في جوهرها تعتمد على الإبتكار، فهي تساعد في وضع الفرضيات أمام المشاهد، من خلال المشاهد الحوارية.

ضمن الفرضيات، قيام المقاومة بتقديم مشاهد كرتونية لأسرى جنود إسرائيليين أو عمليات الإستهداف لمواقع عسكرية، وهي ما تشّكل تهديداً أيضاً كونها تلامس الحواس والمشاعر أكثر من المنطق في تحليل المستوطن لهذه المشاهد

ولكن، لا تعتمد قوة التأثير على المحتوى فقط وإنّما على ما يأتي من بعدها من سلوك ومواقف تعبّر عنها الرسائل التي يتمّ تمريرها. وفي كل عمل توجد شخصية محورية، تصبح لدى المتلقي -إلى أي فئة عمرية ينتمي- هي المعيار للسلوك الأخلاقي، وأوضح مثال على ذلك قيام الأطفال برسم شخصيات تعبّر عن “القدوة” التي يتمثّلون بها في الفيلم، وفي الحالة الفلسطينية يتكثّف الهدف بقدرة المتلقي على التخيل والإفتراض أنّ هناك صبياً يشبهه بالعمر قد طُرد من بيته ويعيش في خيمة، وربما يكون هو ذاته لو حدثت الحرب في بلاده واضطُّر للجوء إلى بلاد أخرى.

ضمن الفرضيات، قيام المقاومة بتقديم مشاهد كرتونية لأسرى جنود إسرائيليين أو عمليات الإستهداف لمواقع عسكرية، وهي ما تشّكل تهديداً أيضاً كونها تلامس الحواس والمشاعر أكثر من المنطق في تحليل المستوطن لهذه المشاهد.

“كارتون” القضية

أدرك الفلسطينيون أهمية الإستثمار في مجال الرسوم المتحركة وهو ما دفع بالعديد من المخرجين والكتاب والرسامين إلى العمل على تنفيذ أعمال تحاكي القضية من زواياها الإنسانية والتاريخية والسياسية والإجتماعية… من هذه الأعمال، الفيلم الفلسطيني “خيّال الحقل” الذي أخرجه خليل المزين سنة 2013، ويتناول قصة الإقتلاع من الأرض والترحيل عبر شخصية كرتونية لفتاة تُدعى ريما تفقد والديها، وترتبط بذكرى من والدها وهي “فزّاعة الحقل” التي تُنصب داخل البستان لإبعاد الطيور، ثم تأخذ الأحداث بعداً جديداً يتّصل بمرحلة اللجوء، مع قيام الاحتلال باقتلاع “خيّال الحقل” من مكانه لتبدأ الفتاة بالبحث عنه.

لم يقتصر الإنتاج على الفلسطينيين فحسب، وإنّما كان للأجانب مشاركة في الأعمال الكرتونية، وهو يدل على قدرة هذا النوع من الفنون في جذب صُناع الرسوم المتحركة (غير العرب) نحو تنفيذ أفلام تعبّر عن تضامنهم مع القضية. فالمخرج النرويجي ماتس غرورد، عاش في مخيّم البراجنة في لبنان ليلمسَ حياة اللاجئين، ويقوم بنقلها لاحقاً عبر فيلمه الروائي “البرج” الذي يحكي قصة ارتباط الأحفاد بحقّ العودة الذي يعبّرون عنه من خلال “المفتاح” الذي ورثوه من أجدادهم، ويقول المخرج النرويجي إنّه اختار عرض الفيلم من زاوية إنسانية، ولو تناوله من نظرة الصراع السياسي لاتُّهم في أوروبا بمعاداته للسامية.

وُجّه العمل في صناعة الرسوم الكرتونية نحو تشويه صورة المقاومة الفلسطينية وتبرير احتلال الصهاينة للأرض، وتقديم نموذج “إنساني” عن المستوطنين

أما من ناحية الكيان الإسرائيلي، فقد وُجّه العمل في صناعة الرسوم الكرتونية نحو تشويه صورة المقاومة الفلسطينية وتبرير احتلال الصهاينة للأرض، وتقديم نموذج “إنساني” عن المستوطنين، فعمل إنتاجهم على إعادة تظهير الشخصيات بصورة مغايرة، مثل ارتداء علاء الدين لباس حركة حماس وتهديده لشخصيات “فاميلي غاي” في مسلسل أمريكي، بالقتل، وسعى الاحتلال إلى تقديم الدعم لرسامين مثل يوسي أبو العافية الذي عمل على إنتاج العديد من القصص والرسوم المتحركة والكتب المصورة والفعاليات، كما استنده إلى التوراة في صناعة رسوم متحركة لمهرجان الأغنية الأوروبية سنة 1999 الذي أُقيم في “اسرائيل”. 

تحديات العمل

تختلف تقنيات العمل في مجال الرسوم المتحركة عن باقي الفنون التي تتعلق بمجال صناعة الدراما، فهنا نتحدث عن عامل الوقت الذي يُحتسب بأجزاء الثانية، فبعض الحركات التي نراها تحدث في المشهد خلال دقيقة واحدة يستغرق العمل عليها شهورا، وهو ما يفتح الباب أمام توافر الخبرات من الأيدي العاملة، وتأمين الدعم المادي لهم وخاصة أنّ هذا النوع من الأفلام يحتاج في أكثر الإنتاجات إلى التفرغ التام. وهو ما يتطلب وجود جهة منتجة تمتلك الجرأة والمغامرة للدخول في مواجهة مع الاحتلال الذي يمتد في سطوته إلى المهرجانات الدولية وصناعة الرسوم المتحركة العالمية، فكل مُنتج جزء من عمله التجارة، ولا يريد الخسارة، وهنا يتشكّل حصار من نوع مختلف على شاشات العرض يصل إلى منع الأفلام الفلسطينية من العرض، مما ينعكس على انكفاء رأس المال المنتج وعدم رغبة الراسمين بالعمل خوفاً على مصدر رزقهم.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , ,