“الياسر”

التصنيفات : |
نوفمبر 11, 2022 7:30 ص

*بسّام جميل

انتظرت طويلاً على حدود الحلم، ولم أنل منه إلا ذاكرة تضيء بزيت البلاد المقدس.

قبل أعوام كثيرة، حفظت مشاهد عدة، كعادتي مع السحر الذي يعكسه وهج الاسطورة في خيال طفل. أن أرى البلاد، أن تتحقّق سردية جدي التي لطالما وجدت فيها مبالغات عدة، لكنّني قبِلتها، لأنّ صاحبها لا يتحدث عنها بعقله فقط، بل بكل جوارح عاطفته الملثومة.

كان الأمر يتعلق بصور منشورة على جدران المخيّم، التي تتغير الكلمات المرفقة بها، دون أن تتغير هيبة نظرات صاحبها، وصور أخرى تتبدل بوتيرة سريعة أحيانا، فأخبار الانتفاضة تبلغنا كأطفال في أزقة المخيّم و نعرف المزيد من الشهداء، يشبهون إخوتنا الذي يكبروننا سناً و بعضهم في مثل عمرنا.

بحثت عن عمّار في الصور على الجدران، عن الفتى الذي يحمل اسمه هذا الضوء الساحر، الذي يقود مشعل الثورة، وأخذت أسأل عنه، عن “الياسر” الشامخ بنظراته، فلم أجد عمّار الطفل على صحفات الجدران، بل وجدته في عيون هذا الرجل الذي ينظر في جدراية مرسومة، نحو أطفال يحيطون به، ضاحك الوجه، فإذا بـ”عمّار”، قريني في العمر ربما، يمثّل كل أطفال فلسطين، ربما حمل أبو عمار هذا الاسم ليدلَّ على ذلك، أو لسبب آخر أجهله.

فهذا الذي حملته أكتاف الشباب وسارت به في أزقة اليرموك، يكاد يكون فلسطين بجلالة قدرها، تخطو بيننا، وتُلوّح لنا “ها أنا بينكم هنا، وغداً ستكونون بيننا هناك، في القدس، عاصمة الأبد”

عرفنا “الياسر” في زيارته لدمشق، أقصد الشوق والابتهال، النشوة، الشعور بانتصار لحظي لا يمكن تفسيره، فهذا الذي حملته أكتاف الشباب وسارت به في أزقة اليرموك، يكاد يكون فلسطين بجلالة قدرها، تخطو بيننا، وتُلوّح لنا “ها أنا بينكم هنا، وغداً ستكونون بيننا هناك، في القدس، عاصمة الأبد”.. بالكاد سمعت كلماته، وحفظ قلبي ما أردته لهذا الرجل أن يقول.

كبرت على وصايا أبي، أن لا تُسلّم عقلك لأحد، فقرأت، وشاهدت الكثير من الأفلام عن مواسم الحرب في بلادي، عايشت حصتي المتواضعة منها. هذا الرجل الصعب، الرفيق لكل هذه الأحداث الكبيرة، تارة أتعاطف مع دموع غلبته في حصار طويل، وتارة أخرى أُعجب بحكمته في إدارة ملفات صعبة، فيصبح الخصم فيها أداة بيده، والصديق رافعة لمعناه.

لم أكتب قبل الآن عن “الياسر”، لا لغضبٍ ينتابني من الرجل، ولا لعجز، لكنّني في كل مرة، أبحث عن توقيتي الخاص لفعل ذلك. لعل ذكرى استشهاده، تنال مني في كل مرة، لتعيدَ إلى  ذاكرتي مشاعر طازجة، في لحظة الوداع الأخير، حيث قام يُلوّح بيده من طائرته التي ستنقله خارج فلسطين للمرة الأخيرة، وكانت ملامحه تقول: “أنا عائد، أنا الشهيد، شجرة تكسر القيد” فتغالبني دمعة العارف بما تلا ذلك من خراب.

ها نحن نعيد إحياء ذكراه، وننظر حولنا، كأنّنا نسيناه! لا لم نفعل.

في كل فاصلة وهامش، في كل صدام ونكبة جديدة، نستعيد “الياسر” كرقم صعب، استطاع تدوير الزوايا، وخوض غمار الخسارات والإنتصارات، فنسأل: ماذا لو كان بيننا، ماذا لو أنّه هنا في هذه الأيام الصعبة ليلمَّ شملنا مجددا، وربما ليحاكمَ رجال الظل، الذين خلفوه في إدارة الوصول إلى حلمنا.

هل بلغنا نصاب جزء بسيط مما حلم به “الياسر”، بعد أن وجد نفسه بين فكّي حصار القرار والدمار، ليوقّع على اتفاقية مرحلية، فتُحال لأزلٍ لا ينتهي بنا.. إلينا؟.

عرفنا أنّ لـ”الياسر” أبناء، منهم عمّار، الفكرة الحالمة بمستقبل كل أطفال فلسطين، وعرفنا أنّ له أعداء من أبناء جلدتنا، فحاولنا أن نلين ونغفر لنتعالى على جراحنا، لكنّهم لم يتركوا لنا فرصة سلام داخلي، يُرمّم شقاقنا.

ولنُعيدَ السيرة الأولى، منذ أن عرفنا “أبو عمار” الذي قاد الثورة الفلسطينية وتمسّك بمنظمة التحرير لتكون منصة شخصية، بعيداً عن التمثيل الحقيقي للشعب فيها، ونحن ندرك مآلات اليوم وسلطة رام الله الحالية، التي توسّعت سياساتها الداخلية والخارجية بنموذج عرفاتي بامتياز، فأصبحت العلاقة الشخصية مع القائد هي الفيصل لتولّي المناصب، هامة أو متواضعة، لا فرق.

ما كان اتفاق أوسلو إلا نِتاج سنوات طويلة من توجيه الخيوط نحو مركزية الحكم والتفرد به

ما كان اتفاق أوسلو إلا نِتاج سنوات طويلة من توجيه الخيوط نحو مركزية الحكم والتفرد به، لينالَ هذا الرجل الاستحسان من أنصاره المنتفعين وخصومات حادة من معارضيه، ليخلقَ انشقاقات في صفوف “فتح” الفصيل الرئيس على الساحة، و يتبعه انشقاقات داخل العديد من فصائل المنظمة وخارجها، لتصبحَ خيوط العنكبوت مُحكمة بإدارة ثعلب السياسة الفلسطيني، ولنصلَ إلى تأسيس السلطة الفلسطينية، ليتسلّمَ كل المناصب القيادية فيها، بل وبلغ الأمر أن يُعيّن نفسه على رأس صندوق الاستثمار الفلسطيني ليتحكّم بكل مفاصل الحياة الفلسطينية في  الضفة وغزة، مع الأثر الهائل الذي يملك امتداده في ساحات الشتات المتعددة.

على طرفي نقيض، نجد أنّ تركة ياسر عرفات، فصيل رئيسي فقد قدرته على القيادة، ومع هذه الخسارة، انعكست الصورة على الوضع السياسي الفلسطيني لتصبحَ أكثر سوداوية في ظل تنازع المتنافسين من الفصائل للعب دور أساسي في رسم مصير هذا الشعب الذي لم ينل بعد فرصة التفكير بشكل منفصل عن كل هذا الأثر المتراكم من الخيبات.

لعب ياسر عرفات دور الأب الراعي لشعبه وقضيته، ولكنّه لم يكن أباً صالحاً دائماً

في الضفة الأخرى من هذه الرؤية، نحاول أن ننظر إلى الجانب الوجداني والعاطفي أنّ ياسر عرفات لعب دور الأب الراعي لشعبه وقضيته ولكنّه لم يكن أباً صالحاً دائما، ورغم ذلك لم يغادر مكانته في قلوبنا ولو حاكمناه بعقولنا. كان موته شائكاً ومهيباً كمثل حضوره في كل بيت فلسطيني.

أبناء “الياسر”، لم يكونوا يوماً قيد فصيل واتجاه، بل هم من نراهم اليوم من كل مشارب هذا الوطن، في ساحاته، وفي أزقة وزواريب المدن والمخيّمات، لا ينتمون إلا للوطن الجامع، للقضية الرافعة، للعدالة السامية، للوجوه المتبدّلة على جدران أزقة المخيّم، وفي صفحات مواقع التواصل، لـ”أسود العرين” وأقرانهم، فهذه هي الوصية، وهذا هو العهد الذي أراده ونعتصم به.

لشهيدنا وذكراه، أن لن ننساه، بأطفالنا وتضحيات أمهاتنا، بصبر جبالنا، والدروس التي تعلمناها من حضوره وغيابه وأنّ فلسطين من البحر إلى النهر.. من الشريان إلى الشريان.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,