ترسانة الوعي
نوفمبر 21, 2022 9:15 ص*وسام عبد الله
تُعتبر الثقافة أحد أعمدة سياسة الدولة بشقيها الداخلي والخارجي، فهي تشكل قنوات تواصل واتصال تتجاوز في بعض الأحيان العلاقات الإقتصادية والنزاعات السياسية، وهي نافذة للوصول إلى مساحة مشتركة في ذروة الخلافات، ولعل الأنشطة والمهرجانات التي يُدعى إليها وزير من حكومة تخاصم الدولة المضيفة، يتلقفه المتابعون بأنّه بادرة حسن نية. فكيف يمكن استثمار الثقافة في البيت الفلسطيني، على فرادته وبكامل نسيجه المحتل؟.
الدبلوماسية الثقافية
مع دخول العالم عصر التكنولوجيا والإعلام لم يعد للدولة القدرة على التحكم بالأفكار بشكل كامل، وأصبحت الثقافة تنسال بين الشباب كانسياب الماء بين الأصابع، وهو ما يتطلب جهداً مضاعفاً للحكومات للتواصل أكثر بين الشعوب. وهنا لا يكون الحديث عن حفل موسيقي أو معرض مشترك للكتاب، بل عن مساعي الدولة لتصدير نموذجها الثقافي إلى دول أخرى، فتعمل على توظيف كل العناصر الثقافية من الأدب إلى الفن وحتى الأديان وحضارات الشعوب والكثير مما يطول ذكره، فلا تكون عملية التصدير محصورة بالبضائع والمنتجات التجارية، إنّما بالقدرة على نشر ثقافة البلاد والتأثير بالرأي العام المحلي والعالمي. وهو ما يُدعى بـ”القوة الناعمة”، أي القدرة على ترويج العناصر الحضارية دون استخدام القوة العسكرية أو الإكراه. وهذا ما عملت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية من خلال إنشاء دائرة ثقافية في وزارة الخارجية سُميت بـ”الدائرة الدولية للتبادل الثقافي” سنة 1947.
ولكن، هل تقتصر الدبلوماسية الثقافية على العلاقات الرسمية بين الدول؟، أحد النماذج للعلاقات الثقافية بين الشعوب عبر التبادل الطلابي بين المؤسسات التعليمية،عندما يدخل الطالب في النسيج المجتمعي لبلد آخر ويتفاعل مع القيم والأفكار عن طريق الجامعة والعلاقات الإجتماعية، وهو ما يُفسر سبب الاهتمام الغربي بتأمين منح دراسية وتبادل طلابي مع مختلف المجتمعات وجذبهم إلى مجتمعاتهم، ليس بهدف تعليمهم فقط، إنّما للتأثير عليهم بشكل مباشر ومحاولة إدخالهم ضمن منظومة القيم الخاصة بهم. فنحن أمام تكوين الصورة لدى الآخر، وبعض الدول تعمل على تخصيص منح تعليمية للدول المصنفة فقيرة، وتأمين سفر الطالب وإقامته، وهنا لسنا أمام صفقة إقتصادية رابحة، لأنّ ما يهم الدولة هو تلميع صورتها أمام تلك الشعوب، فكيف إذا كانت معظم تلك الدول مسؤولة بجزء كبير عن حصار “الشعب الفقير” ذاته.
القوة الناعمة الفلسطينية
عمل الكيان الإسرائيلي على الاستثمار في الدبلوماسية الثقافية، من ترويج فكرة “الهولوكوست” لتثبيت “عقدة الذنب” لدى المواطن الأوروبي، إلى التسويق بأنّهم دعاة سلام بين الشعوب، وصولاً إلى التطبيع العربي وما سينتج عنه من تبادل ثقافي مع دول عربية. وفي ظل الحصار السياسي والإقتصادي على الشعب الفلسطيني، وعلى سياسته الخارجية، التي تأثرت بشكل كبير بما وقّعته السلطة الفلسطينية من اتفاقيات أمنية مع الاحتلال، وفي مقدمتها اتفاقية أوسلو، كان لها التأثير على الحضور الفلسطيني في الدبلوماسية الثقافية الدولية، نتيجة الشقاق داخل البيت الفلسطيني وفقدان القرار السيادي.
بالمقابل، يمتلك الشعب الفلسطيني القدرة على إنشاء علاقات ثقافية تتجاوز قدرة الاحتلال على منعها وحصارها، وخاصة من ناحية اللاجئين وحضورهم في المجتمعات المضيفة. تتنوع العناصر الثقافية الفلسطينية، من العادات والتقاليد إلى الموسيقى والفنون الشعبية وأساليب الحياة والسلوكيات التي تمّ الحفاظ عليها وصونها رغم الاحتلال. فمن خلال تقديم اللاجئين الفلسطنيين لعناصرهم الفنية، من لباس وموسيقى ومأكولات شعبية، نكون دخلنا في مواجهة مباشرة مع الكيان الذي يروّج الأضاليل في المجتمعات الخارجية ويدّعي أنّه مالك تلك التقاليد، نحن إذاً أمام صراع ثقافي يحتاج إلى حاضنة وداعم له، فالبعثات والقنصليات لها صبغتها السياسية، أما المراكز الثقافية فتملك الواجهة الفنية التي تعطي انبطاعاً إيجابياً للمجتمع المضيف لها.
الانفتاح هو السمة الأساسية لاستقطاب وزيادة الداعمين والمتضامين مع القضية الفلسطينية، وتحويلهم مع الوقت إلى مجموعات ضغط في مجتمعاتهم، حركة المقاطعة مثلا، أحد وجوه الدبلوماسية الثقافية داخل المجتمعات الغربية.
تشكّل الدعاية والإعلام أهم وسائل نشر القيم الثقافية للمجتمع الفلسطيني، وهو ما يتطلب المساهمة في إنشاء وتطوير مراكز الأبحاث والدراسات العربية، وإصدار منتجات فنية وترويجها بين الشباب العربي، وما يطرح التساؤل عن مدى توظيف المال العربي في المكان الصحيح.
إنّ القوة الناعمة أو الدبلوماسية الثقافية، لقضية حق، داخل الأراضي المحتلة وفي الشتات، هي معركة التأثير على العقل والعاطفة لدى الشعوب المتعاطفة، لذا يتوجب الاهتمام بها بشكل أكبر، وإنهاء التعامل مع الشأن الثقافي على أنّه ترف فكري ونخبوي، فالثقافة هي نمط حياة المجمعات، والدبلوماسية الثقافية هي مقاومة تؤازر السلاح في معركته مع الاحتلال.
*كاتب لبناني
وسوم :
الاحتلال الصهيوني, البيت الفلسطيني, الثقافة الفلسطينية, الدبلوماسية الثقافية, الدعاية, الشباب العربي, الصراع الثقافي, القضية الفلسطينية, القوة الناعمة, الهولوكوست, صمود, فلسطين المحتلة, وسام عبد الله