صالح علماني.. “كبيرهم الذي علّمهم السِّحر”

التصنيفات : |
ديسمبر 6, 2022 11:05 ص

*فاطمة شاهين

وأنتَ تقرأ مقالته حول الكاتب والصحافي إدواردو غاليانو (1940-2015) (1)، يجعلك صالح علماني تتساءل، كيف يمكنك أن تكتب سيرةً ذاتية لكاتبِ في مقالة، أكثر جمالاً وأبهى أدباً ممّا فعل هو. ويعجزك أكثر، أنّك ستكتب عن صالح علماني نفسه، ذلك الذي حين أراد أن ينقل الأدب الإسباني، وأدب أمريكا اللاتينية إلى العرب، كتب أدباً بذاته وليس مجرد ترجمة. فتُقرّر حينها، أن تستأذن القارىء منذ البداية، في اعتبار ما يلي، محاولة بسيطة لإخبار العالم: من هو صالح علماني؟.    

لم تكن ولادة واحدة!

كانت الولادة، مرحلتان حاسمتان. ولادةٌ أتت به إلينا، من أبٍ وأمٍّ فلسطينيين، في الأول من كانون الثاني/ديسمبر من العام 1949، وتحديداً في مخيّم الوافدين القريب من مدينة حمص السورية (2)، وولادةٌ ذهب هو إليها، في إسبانيا، بعد حوالي الثلاثين عاما، ليصبح مترجماً للأدب الإسباني، والأمريكي اللاتيني. 

لقد احتاج عاماً واحداً لينتقل من دراسة الطب إلى دراسة الصحافة في إسبانيا، واحتاج فترة قصيرة ليترك الصحافة وينتقل إلى العمل في الميناء، في مهنٍ متنوعة أتاحت له الاحتكاك بالناس، بحضارتهم، وثقافتهم، وهمومهم ومشاكلهم، كما أتاحت له أن يعيش بعضاً من معاناة الطبقات الفقيرة منهم، ثم لينتقل إلى دراسة الأدب الإسباني.  

وفي برشلونه، قاده صديق للتعرّف على غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2017) من خلال إهدائه رواية مئة عام من العزلة، وقد جذبته اللغة العجائبية التي كُتبت بها كما عبّر علماني فتحمّس لترجمتها، وبدأ فعلياً بفصلين منها قبل أن تنسيه انشغالاته الكثيرة استكمال ترجمتها. ولكنّ الكاتب والصحافي الكولومبي بقي ساكناً في بال ووجدان علماني، حتى ترجم له قصصاً قصيرة نُشرت في الصحف، وكانت “ليس للكولونيل من يكاتبه” أول رواية حُظيت بترجمة كاملة من علماني، وبإعجاب كبير من صحيفتي النهار والأخبار، حتى كتب الناقد الفلسطيني حسام الخطيب (1932-2022) على إثرها أنّ “شابّاً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية” (3).

“أن تكون مترجماً مهمّاً أفضل من أن تكون روائيّاً سيئا”

لقد تمكنت الحفاوة التي حظي بها علماني، بعد سلسلة ترجماته، من دفعه للتوقف عن الكتابة، بل تمزيق روايته التي كان قد بدأ كتابتها، والتحوّل كليّاً نحو ترجمة روايات الآخرين. لقد اعتبر أن يكون المرء مترجماً مهمّاً أفضل من أن يكون روائيّاً سيئا. في تلك الفترة، كان نجم الرواية الأمريكية اللاتينية قد سطع في الستينيات والسبعينيات، وسطع معها روائيّوها مثل ماريو بارغاس يوسا في البيرو، غابريل غارسيا ماركيز في كولومبيا، وكارلوس فوينتس في المكسيك، وغيرهم في كوبا (4).

وفي تلك الفترة أيضاً شغل القراء العرب، تيار الواقعية السحرية الذي على الرغم من انطلاقه مع الألمان في الثلاثينيات، إلا أنّه عرف الانتشار في مجال الأدب مع أدباء أمريكا اللاتينية، وأوّلهم كان الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) مطلق هذا النوع من الأعمال في أمريكا اللاتينية في الأربعينيات. لقد جاء هذا التيار كرد فعل على الإغراق في الواقعية، “يمزج فيه الكاتب بين الواقع والخرافة أو الأسطورة، ليعطي مزيجاً سحريّاً يشد لبّ القارىء” (5)، وأيّما حظٍّ كان للقارىء العربي، بأن كان علماني من ترجم له العديد من أعمال هذا التيار الأدبي.

أكثر من 110 أعمال مترجمة، بدأها “إمام المترجمين” كما لقّبه الكاتب الفسطيني مريد البرغوثي (1944-2021) مع غابريل غارسيا ماركيز، الذي ترجم تقريباً كل رواياته ما عدا “خريف البطريرك”، واعتبر بأنّ قراءته سهلة لكنّ ترجمته صعبة، وتنقل بين لويس كورفالان ولوركا ورافائيل ألبيرتي وإستر برات وخوان رولف، لينتقل أيضاً إلى ماريو فارغاس يوسا، إيزابيل الليندي وخوسيه ساراماغو، وإدواردو غاليانو. كما أنّ أنواع أخرى من الكتب غير الروائية، كان لها نصيب من ترجماته، فقد ترجم “إسبانيا ثلاثة آلاف عام من التاريخ” لأنطونيو دومينيغيث أورينت، كما سيرة ماركيز الذاتية “عشت لأروي”. وكان للأطفال نصيب مع روايتين (الدب القطبي، القطار الأصفر)، وليس بعيداً عن الشعر الذي ترجم فيه لبابلو نيرودا وشعراء آخرين.  

لا شك، أنّ هذه الموهبة الفذّة في الترجمة، كانت محطّ طلب الناشرين، الذين عمل معهم ضمن اختياراتهم وفق ما صعد من الأدباء النجوم حينها، حتى كانت هذه الغزارة في الإنتاج، والعمل على الترجمة لعشر ساعات يومياً خلال ربع قرن.

أنا موجود في كل ترجماتي”

عندما سُئل صالح علماني عن معاييره التي يرى من خلالها المترجم الجيد، قال: “يظهر هذا من مدى استيعابه لروح النص وفهمه لظلال المعاني الملقاة على النص الأدبي وكيف يستطيع أن يعبّر ويوضّح هذه التفاوتات البسيطة في اللغة” (6). وإذا ما سألنا نحن ما الذي يجعل من صالح علماني مترجماً بكل تلك الالقاب، من “شيخ المترجمين العرب” و”سفير اللاتينية إلى العرب”، إلى “عراب أدب أمريكا اللاتينية إلى لغة الضاد”، فلن نجد أكثر تعبيراً عنه من إجابته.

“يظهر هذا من مدى استيعابه لروح النص وفهمه لظلال المعاني الملقاة على النص الأدبي وكيف يستطيع أن يعبّر ويوضّح هذه التفاوتات البسيطة في اللغة”
(صالح علماني)

كانت روح النص الأصلي، تتماهى مع روح كتابته، حتى جاءت الترجمات كلها، كتابات لامعة، جعلت من المترجم نجماً بينما كانت النجومية من نصيب الروائيين والأدباء.

لم تشكّل اللغة الإسبانية، برأي علماني، صعوبة كبيرة، بقدر ما شكّلت لهجاتها المختلفة بالنسبة إليه. فالكلمة في كوبا، ربما تعني أمراً آخر في كولومبيا، وكذلك بالنسبة للعديد من الفردات. ومن هنا، كانت عبقريته بأن استطاع الوصول بالرواية إلى القارىء، بأكثر التعابير والمعاني دقة. ولا شك، أنّ احتكاكه بالناس قد ساهم إلى حد كبير في فهم عادات وتقاليد وأفكار الشعوب التي كان يترجم روايات أدبائها.

“هذا الرجل ثروة وطنية ينبغي تأميمها”

هكذا يعبّر الشاعر الفلسطيني محمود درويش حين يتكلم عن صالح علماني (7). لم يعمل علماني في الترجمة فقط، بل كان له الكثير من التواجد المهني في الميادين المرتبطة، كعمله في “وكالة الأنباء الفلسطينية”، ومترجماً في السفارة الكوبية في دمشق، فضلاً عما تقلّده من مناصب في مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية و”الهيئة العامة السورية للكتّاب”. وهو عضو جمعية الترجمة في “اتحاد الكتّاب العرب” في سوريا. ومشرفاً كان، أشرف على ورش عمل تطبيقية في دمشق في معهد ثيربانتس.

هذا المترجم الذي بلا شك أحبّ كل النصوص التي ترجمها، بدليل ما عبّر به “لا يمكنني أن أختار نصّاً للترجمة إن لم أحبه”(8)، وأول من امتلك مفاتيح الأدب الإسباني وأدب أمريكا اللاتينية ونقله بأمانة وإبداع إلى القارىء العربي، استحق العديد من التكريمات والجوائز. كان تكريمه في طليطلة (2013)، واتحاد الأدباء والكتّاب العرب في مدينة طنجة المغربية (2015)، كما نيله وسام الثقافة والفنون (المستوى الإبداع) من الرئيس الفلسطيني محمود عباس (2014). وكانت الجوائز من نصيبه، في 2015 جائزة خيراردو دي كريمونا الدولية للترجمة، وجائزة الملك عبد العزيز بن عبد الله الدولية للترجمة فرع جهود الأفراد.

“الآن فقط مات ماركيز”

رحل الكولونيل، ليس لدى الروايات الإسبانية من يترجمها بعده، بنفس ذلك السحر. كانت “الميتات” للكاتب المكسيكي خورخي إيبارغوينغويتيا آخر ترجماته.

رحل “ساعي بريد الأدب المكتوب بالإسبانية”، بعد أن شاءت ظروف التهجير المتكررة القاسية أن تكون إسبانيا، بلد الولادة الثانية بالنسبة لعلماني، هي نفسها أرض الرحيل، من بلنسية، في 3 كانون الأول/ديسمبر 2019.

رحل تاركاً خلفه إرثاً حضاريّا، مطعّماً بالعربية الأصيلة، وروح المترجم وأسلوبه، المترجم الذي استطاع أن يكون النجم، في بلادٍ يبقى المترجمون فيها، خلف النصوص الأصلية، وخلف الكواليس.

*كاتبة لبنانية

المراجع:

1- علماني، صالح. (2015). أميركا اللاتينية فقدت شريانها الأبهر، إدواردو غاليانو: الكتابة بالممحاة. موقع صحيفة الأخبار الالكتروني، الجمعة 15 نيسان 2015. مأخوذ من:

https://al-akhbar.com/Kalimat/19240/%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%82%D8%AF%D8%AA-%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%87%D8%B1-%D8%A5%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%88-%D8%BA%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7%D9%86%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D8%AD%D8%A7

2- صنيج، بديع. (2019). صالح علماني.. “كولونيل الترجمة” يترجل عن حصانه. مأخوذ من موقع الميادين الإلكتروني:

https://www.almayadeen.net/investigation/1365015/%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A—-%D9%83%D9%88%D9%84%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9–%D9%8A%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%84-%D8%B9%D9%86-%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D9%86%D9%87

3- زريق-صباغ، رندة. (2019). “إنّ شابّا فلسطينيا يترجم أدبًا مجهولًا لقراء العربية”: ضالح علماني.. وداعًا. مأخذ من موقع الاتحاد:

https://www.alittihad44.com/mulhaq/%D9%85%D9%84%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B9%D8%A9/-%D8%A5%D9%86-%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%8B-%D9%8A%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85-%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D8%A7%D9%8B-%D9%85%D8%AC%D9%87%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D9%8B

4- منير، محمود. (2019). صالح علماني.. في وداع المترجم الأكثر شهرة. مأخوذ من موقع العربي الجديد:

https://www.alaraby.co.uk/%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D8%B4%D9%87%D8%B1%D8%A9

5- لغتيري، مصطفى. (2022). الواقعية السحرية في الأدب. مأخوذة من موقع القدس العربي:

6- يونس، عبير [محاور]. (2017). صالح علماني: لهجات الأدب اللاتيني ارهقتني. مأخوذ من موقع البيان:

https://www.albayan.ae/five-senses/dialogue/2017-07-10-1.2998844

7- الشقيري، عمار أحمد. (2014). صالح علماني: المترجم الذي برتبة كولونيل. ماخوذ من موقع عمان نت:

https://ammannet.net/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%A8%D8%B1%D8%AA%D8%A8%D8%A9-%D9%83%D9%88%D9%84%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%84

8- يونس، عبير [محاور]. مصدر سابق.


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,