“فرحة” توثّق من قبوها جرائم الاحتلال وتروي لمن لم يرَ

التصنيفات : |
ديسمبر 12, 2022 12:33 م

*وسام عبد الله

تملك “إسرائيل” ترسانة ثقافية من أدوات إعلامية ومنظمات مهمتها تلميع صورة جرائمها وتبريرها، ولكنّ هذا الجدار المرئي والمسموع هزّته كاميرا المخرجة دارين سلام في فيلمها “فرحة”، فكانت الهجمة الإسرائيلية لمنعه ومقاطعة منصة “نتفليكس” الناشرة له، فماذا حرّك العمل السينمائي لدى العدو، وهل “شبح” حنظلة وأدب غسان كنفاني يرافق ظل المستوطنين؟!.

قصة “فرحة”

“فرحة” طفلة فلسطينية يروي الفيلم قصتها في عودة إلى عام 1948، لينقل صورة قرية تتعرض لاقتحام من القوات الإسرائيلية، وحرصاً على سلامة ابنتهم تخبّئ العائلة الفتاة في قبو بعيداً عن أعين العدو، ولكن تشققات داخل الجدار تسمح لعيونها الصغيرة أن تشهد قتل أفراد أسرتها. يشرح الفيلم وحشية الجنود ويقدّم مراجعة تاريخية مبسّطة لما حدث في زمن النكبة، حين لم يكن هناك كاميرا ترصد وتوثّق جرائم العصابات الصهيونية.

إعادة إنتاج النكبة وتصويرها، لا يُصنّف ضمن الوثائقيات أو التأريخ، إنّما إعادة “إنتاج الحياة” التي عاشها الفلسطينيون ما بعد وعد بلفور وإعلان تأسيس الكيان، فهذه الفجوة المرئية هي ما نحتاج إلى ضخّها باستمرار، بالمعلومات والقصص لضمان حمايتها في ذاكرة الشعب الفلسطيني، والأهم، تعريف المجتمعات العربية بأجيالها الجديدة، والمشاهد الأجنبي، على قصة لم تصل إليه بالشكل الصحيح. وهو ما يفسر سبب الدعوة لسحب الإشتراكات من “نتفليكس”، كنوع من العقاب، أن لا رواية تُحكى إلى ذات المصدر الصهيوني، ما عدا ذلك، مصيره كما الحجر والبشر في فلسطين، الحصار والتهميش، والموت المعنوي.

فرحة” تشبهنا

يرمز قبو البناء في ذاكرة شعوبنا إلى قصص مختلفة، فهو تهديد الوالدين لطفلهم بوضعه داخل القبو في حالة شغبه المتواصل، وهو شكّل “الملجأ” الذي كانت تأوي إليه العائلات اللبنانية هرباً من القصف خلال زمن الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، أما بالنسبة لـ”فرحة” وما تمثّله برمزيتها، فهو محاولة حماية الاطفال بعيداً عن أعين الاحتلال، ولكن عين الفتاة رصدت مشاهد القتل، فماذا تغيّر في تلك العيون؟.

تملك الأفلام القدرة على التأثير بنمط التفكير في أنفسنا وثقافتنا ومواقفنا من القضايا، فحين نتلقّى بحواسنا مشاهد تهجير وتشريد شعب بأكمله، يتحرك بداخلنا شعور ما، يختلف بقوّته بين شخص وآخر، ولكنّه موجود وله تأثيره، ويكفي متابعة المنشورات على مواقع التواصل الإجتماعي المتضامنة مع الفيلم، ومساهمتها في دفع فضول المتابعين لمعرفة سبب هذه الحملة وما هي قصة الفيلم، فنحن نحتاج أن نكون رواة للقصة ومشاكسين في تقديمها.

حين قام تنظيم “داعش” بخطف النساء، ومن استطاع تهريب بناته اللواتي شاهدن من خلف زجاج الحافلة مشاهد القتل، ألا تشبه كل واحدة منهن الفتاة الفلسطينية في قبوها؟، إن كان زمن الفيلم في منتصف القرن العشرين فهل تجاوزنا اليوم حاجز الخوف من وحشية الاحتلال وجرائمه المتصلة؟

“فرحة” ليست استثناءً في تاريخ البشرية، لأنّ جميعنا قد يتعرّض يوماً ما لموقفها، فحين تُخفي أمّ ابنتها داخل خزانة حتى لا تشهد العنف الذي تتعرّض له والدتها فتنظر من ثقب المفتاح، ألا تشبه فرحة؟!، وحين قام تنظيم “داعش” بخطف النساء، ومن استطاع تهريب بناته اللواتي شاهدن من خلف زجاج الحافلة مشاهد القتل، ألا تشبه كل واحدة منهن الفتاة الفلسطينية في قبوها؟، إن كان زمن الفيلم في منتصف القرن العشرين فهل تجاوزنا اليوم حاجز الخوف من وحشية الاحتلال وجرائمه المتصلة؟.

عام 2005، عُرض فيلم “الجنة الآن” (إخراج هاني أبو أسعد)، وهو يحكي قصة الساعات الأخيرة لشابين فلسطينيين يستعدان لتنفيذ عملية استشهادية، والمشهد الأخير يصوّر لحظة التفجير بظهور وميض أبيض دون الدخول بما حدث للمستوطنين وعدد قتلاهم، وكأنّ الرسالة هي قصتهم وليس العملية بحد ذاتها، لأنّ الأفلام الفلسطينية نهايتها مفتوحة بشكل عام، فلا سعيد وخالد (الجنة الآن) ولا فرحة، أغلقوا النهاية، فالقضية هي تفاصيل حياتهم في مواجهة الاحتلال. 

العمل السينمائي الفلسطيني، هو فعل مقاوم وتوثيقي، إنّما الخطوة الأبعد هي في إحداث التغيير لدى المتلقي. والمنصات، على الرغم من الضغوط الإسرائيلية، تبقى على أهميتها في العبور من خلالها إلى وعي المشاهد حين يتمّ إغلاق الشاشات الكبرى، فحاجتنا إلى ما يشبه سينما “العربة” التي تتنقّل بين القرى والمدن، وتقديم نماذج فلسطينية تمثّل البطولة والإنسانية والألم والصمود، لا اختصار الهدف بتصدير الحزن وكأنّ الشعب الفلسطيني لم يعبُر بألمه نحو العمل المقاوم، فالمشهد يكون مكتملاً بكافة العناصر. وهو ما فعلته دارين سلام في حصولها على جائزة الاتحاد الأوروبي في مهرجان أسوان الدولي لدعم المرأة، فحقّقت الوصول للآخر، وما فعلته على الجانب الإسرائيلي بالتعبير عن خوفه، بإعلان وزير مالية الاحتلال سحب تمويل مسرح السرايا في يافا الذي أعلن عن عرض الفيلم.

نحتاج إلى إنتاج المزيد، لأنّ الصراع في فلسطين كان وسيبقى حتى التحرير صراعاً مشتبكاً بين الرصاصة والكلمة ومواجهة الاحتلال تستنفر كل مقومات الفكر والجسد فالعدو أشرس من كل أعداء الإنسانية جمعاء والثقافة بكل تلاوينها مقاومة لا يُستهان بها.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , ,