جدارية ناصر أبو حميد

التصنيفات : |
ديسمبر 22, 2022 10:20 ص

*حمزة البشتاوي

عُرفت الجداريات في العصور القديمة بالرسم والحفر على الجدران وذلك باستخدام الآلات الحادة أو الفحم أو الطباشير، ويدوَّن عليها ما يرتبط بالواقع والخيال.

وعلى جدران زنزانته، صنع الأسير الشهيد ناصر أبو حميد جداريته الخاصة من ملح وجرح وكتب عليها بدمه أناشيد الحرية والمواجهة مع السجن والسجان، ورسم بسلاح الذاكرة ملامحه وإصراره على الحرية والنصر، وكتب عن حياته الطويلة داخل السجن والقصيرة خارجه، وكيف كانت مليئة بالحب والأزهار والحجارة والرصاص، وحوارات الحالمين بالوطن.

وخطّ عليها ما قاله في إضراب الكرامة داخل السجون عام 2017 (ما زلنا نطرق أبواب الزنازين نفرح مُكبّرين مُهلّلين نتحدى السجن والسجان وإجرامه وبطشه الوحشي، نتنفس الحرية والكبرياء ونسير إلى الموت مبتسمين ونتربع على بطانية سوداء هي كل ما تركوه لنا، حول كأس ماء وقليل من الملح نغني للوطن ولربيع الإنتصار القادم).

وكان يعلم، بعد أن أنضجته المعركة وأوجاع السجن والمرض المستحكم بجسده الطافح بالكبرياء والذكريات وسيرته الشخصية منذ ولادته في مخيّم النصيرات بغزة وطفولة قلبه المدرَّب على الصبر كي يتسع للورد والشوك في مخيّم الأمعري بالضفة، أنّ هذه المحطة هي جزء من انخراطه بالعمل المقاوم الذي بدأ مع اندلاع الإنتفاضة الأولى عام 1987، حيث جُرح وأعتُقل أكثر من مرة وأصبح شقيقاً لشهيد وأربع أسرى وبلا بيت بسبب قيام الاحتلال بهدم بيته خمس مرات.

إنّ شهادته ستساهم بإعادة ترتيب الأشياء بما يليق به وبجسده الذي يحتاج إلى أن يُوارى الثرى في قبر يضمه ويليق به كفدائي وثائر من أجل تحرير الأرض والإنسان

وعلى الجدارية أيضاً كلمات من جروح قلبه تؤكد بأنّه اختار دربه بنفسه بقناعة وإيمان لينتقلَ من جريح إلى أسير ثم شهيدا، ليكون رمزاً فدائياً يبعث الأمل في الملحمة المستمرة والطريق المعبّد بالتضحيات والذي قال عنه في وصيته المكتوبة على الجدارية (أنا ذاهب إلى النهاية ولكنّي مطمئن وواثق بأنّني فلسطيني أولا، وأفتخر بأنّني تارك خلفي شعباً عظيماً لن ينسى قضيتي وقضية الأسرى).

وعلى الجدارية نقرأ بأنّ عدد شهداء الحركة الأسيرة بلغ حين استشهاده 332 شهيد بينهم 73 شهيداً نتيجة سياسة الإهمال الطبي التي تنتهجها إدارة السجون الإسرائيلية.

وكلمات عن معاناة أمهات الأسرى اللواتي ينتقلن من اعتصام إلى آخر على أمل لقاء قريب بفلذات الأكباد، وكيف يحملن خيوط الحكاية ويسطّرن قصص التحدي والصبر والقلق على أحبائهن داخل السجن، ونقرأ أيضاً ما قالته والدته حين سُئلت بمقابلة تلفزيونية: لو خيّروك بين الأفراج عن أبنائك أو الأسرى المرضى ماذا تختارين؟.

لتردَّ دون أن تعلم بعد بأنّ ابنها مريض: “الأسرى المرضى لهم الأولوية”.

وعلى الجدارية كلمات لناصر تشبه المدينة والمخيّم ونزول المطر وتفتُّح العشب وانتصار الضعف على القوة والحب على الحرب.

وعلى الجدارية أيضاً دوي صرخات الأسرى بوجه وحشية السجن والاحتلال، والكثير من قصص الصبر والصمود التي قدّمها الأسير الجدير بالشهادة ناصر أبو حميد والتي ستبقى حاضرة ومحفوظة دون أي تدخل من الخطباء، مع اليقين بأنّ شهادته ستساهم بإعادة ترتيب الأشياء بما يليق به وبجسده الذي يحتاج إلى أن يُوارى الثرى في قبر يضمه ويليق به كفدائي وثائر من أجل تحرير الأرض والإنسان.

*كاتب وإعلامي


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,