“الجبهة الشعبية” والتخلي عن “الحل المرحلي”: فلسطين الهدف والبوصلة
ديسمبر 23, 2022 7:03 ص*أحمد الطناني – غزة:
في مهرجانها المركزي إحياءً للذكرى الـ55 لانطلاقتها، أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على لسان نائب أمينها العام جميل مزهر، أنّ “الجبهة تمضي بمسيرة الكفاح والمقاومة، ترسم معالم عام مضى، وعام جديد من الكفاح. وقفت فيه الجبهة مع ذاتها وقفة جدية في المؤتمر الوطني الثامن، وخاصة أمام برنامجها السياسي”، مضيفاً أنّ “الجبهة أزاحت في هذا المؤتمر الخيار المرحلي عن الطاولة واعتبرته بوابة للتنازلات، وعادت إلى خيارها الاستراتيجي: “فلسطين كل فلسطين”، وتؤكد الجبهة أنّه لا حلول ولا تسويات ولا مفاوضات، فإما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل”.
إعلان “الجبهة الشعبية” الذي تزامن مع خطوات عملية طرحها نائب الأمين العام، جاء في أول مهرجان جماهيري ضخم بعد انعقاد المؤتمر الثامن للجبهة، الذي جدد في عضوية هيئاتها القيادية، ووقف أمام التجربة بالنقد والتقييم والتقويم، على كل الأصعدة، وفي المقدمة منها البرنامج السياسي، الذي تخلى بشكل واضح عن “الحل المرحلي”، وتمسَّك بالخيار الاستراتيجي، كل فلسطين من نهرها إلى بحرها، ليس من باب الشعاراتية، أو رفع العناوين البراقة، لكنّه من تشخيص دقيق وواقعي للمنحدر الذي تسير فيه القضية الفلسطينية، والسقف المتهالك للحقوق والبرامج السياسية.
هذا المنحدر المستمر، الذي يأتي وسط مشهد صهيوني متصاعد في الإجرام والفاشية والتشدد، وقضم استيطاني يتمدد تدريجياً ويلتهم الأرض الفلسطينية بتوحش في الضفة الغربية والقدس، مترافقاً مع عجز فلسطيني رسمي يكتفي ببيانات الإدانة، والالتزام بالإستحقاقات الأمنية لاتفاق أوسلو الذي داسته الدبابات الصهيونية منذ أكثر من 20 عاما، ولا زال أصحابه يتمسّكون بوهم التسوية.
البرنامج المرحلي
منذ طرح وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مشاريعه للتسوية بالمنطقة على أثر تداعيات حرب 1973، بدأ الحديث شبه العلني عن “البرنامج المرحلي”، الذي قُدّم في حينه على شكل برنامج النقاط العشر، الذي تقدّمت بمسودته الجبهة الديمقراطية إلى المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة في حزيران/يونيو 1974 حيث تمّ إقراره.
انسحبت كل من “الجبهة الشعبية” و”القيادة العامة” احتجاجاً على إقرار المشروع، وفتح بوابة الهبوط بالموقف الوطني الفلسطيني، وبعد تعليق عضويتها في المنظمة، عادت “الجبهة الشعبية” إلى المنظمة، إلا أنّ منظمة التحرير لم تعد كسابق عهدها، فهذه الخطوة كانت الأولى نحو كسر الإجماع الفلسطيني وتفتيت وحدة فصائله الفاعلة.
كان من أهم ما ورد في البرنامج -بما يشير إلى تراجع واضح عن الميثاق الوطني- البند المتعلق بالكفاح المسلح، حيث “تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتمّ تحريرها”، وهو مؤشر على انخفاض السقف الوطني من تحرير كامل التراب الفلسطيني إلى الأراضي التي احتُلت عام 1967 أو أقل من ذلك، وكذلك من الكفاح المسلح كاستراتيجية إلى وسيلة للتحرير من بين وسائل أخرى سياسية ودبلوماسية وشعبية.
بوابة التنازلات
لم تكن خطورة “البرنامج المرحلي” في كونه يمثّل إزاحة عن موقف الإجماع، أو هبوطاً في منطلقات الثورة والميثاق الوطني فقط، لكنّ الخطير أنّه كان ممراً وبوابة للتنازلات والهبوط المتتالي في السقف السياسي والقبول بالفُتات على حساب تضحيات الشعب الفلسطيني.
لتتوالى التنازلات تدريجياً حيث تضمنت الدورة التاسعة عشر للمجلس الوطني المنعقدة في الجزائر عام 1988، إعلان الدولة الفلسطينية على أساس “حل الدولتين” والقرار 242 الذي أعقب حرب الـ67.
الإعلان كان مدخلاً لما حدث بعد ذلك في جنيف (1988) حيث تمّ الاعتراف بـ”إسرائيل”، “ونبذ الإرهاب”، وقرارات مجلس الأمن 242 و338، في مقابل وعود بفتح الحوار مع الإدارة الأمريكية بشأن التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية.
لم يتوقف مسلسل التنازلات هنا، فقد وصلت القيادة المتنفذة في المنظمة نحو مؤتمر مدريد للسلام (1991)، بعد عقد دورة المجلس الوطني العشرين في الجزائر (1991)، حيث تبنّت عدة قرارات أهمها “ضرورة انعقاد مؤتمر مدريد على أساس القرارين 242 و338 تحت شعار “الأرض مقابل السلام”.
استمر مسلسل التنازلات الفلسطيني من القيادة المتنفذة بالوصول لتوقيع اتفاق أوسلو بالعام 1993 وما رافقه من تجريف للثوابت الفلسطينية التي تضمنت الاعتراف بـ”إسرائيل” على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، و”نبذ العنف والإرهاب”، وترتيبات أمنية تشمل التنسيق الأمني لمحاربة المقاومة، وتأجيل الحديث عن القدس واللاجئين والحدود، في مقابل اعتراف “إسرائيل” بمنظمة التحرير وإقامة سلطة حكم ذاتي على بعض المناطق التي تنسحب منها “إسرائيل” من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبالرغم من أنّ الدبابات الإسرائيلية داست (خلال اجتياح الضفة الغربية في سنة 2002) على هذا الاتفاق الذي لم يعُد مطروحاً إسرائيليا، حيث بات المطروح هو السلام الاقتصادي. الدولة الفلسطينية لم تعد مطروحة، إنّما المطروح هو ترتيبات إدارية في سياق السلام الاقتصادي، إلا أنّ أصحاب هذا المسار لا زالوا يتمسكون به وملتزمين باستحقاقاته الأمنية بشكل كامل!.
الوقفة مع الذات شجاعة
بالرغم من أنّ “الجبهة الشعبية” وفي سياق معين قد سبق وقبلت إدراج “الحل المرحلي” على قاعدة الخيار التكتيكي ومع تقييدات واضحة بأنّه ليس بديلاً عن الخيار الاستراتيجي ووضعت شرط عدم الإعتراف بالاحتلال، واعتبار “الحل المرحلي” جسراً نحو التحرير الكامل.
إلا أنّها لم تتعامل مع نصوصه باعتبارها نصوصاً جامدة ثابتة غير خاضعة للتقييم والمراجعة، بل إنّ الجبهة ترفع النقد والنقد الذاتي كشعاراً وناظماً أساسياً في كل تفاصيل عملها، ومن هذا المنطلق وقفت بشجاعة أمام برنامجها السياسي وأمام المشهد السياسي الفلسطيني ككل لتقييم خيار -منذ أُدرج في أدبياتها- لم يشكّل موضع إجماع أو موافقة من كادرها أو قيادتها، وطرحت التساؤل الرئيسي: أين أصبنا وأين أخطأنا وأين يجب أن نعدّل ونقوّم؟.
شخّصت “الجبهة الشعبية” في “الحل المرحلي” بأنّه مثّل بوابة لتقديم المزيد من التنازلات أمام الموقف الإسرائيلي الواضح، الذي داس حتى على اتفاقية أوسلو، ويريد اليوم ضمّ الضفة كلها، مؤكدةً أمام جماهيرها أنّ أول خطوات العلاج واستعادة المشروع الوطني الفلسطيني، هو التخلي عن كل الصيغ التنازلية، والعودة إلى الأساسات، التمسك بـ”فلسطين كل فلسطين”.
تعي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنّ خيارها بالتمسّك بالحل الاستراتيجي لن يكون طريقاً مفروشاً بالورود، وليس شعاراً للإستهلاك، بل هو تمسّك بسبيلٍ عِماده تصعيد المقاومة وتوسيع دوائر فعلها وتأثيرها، وثمنه سيكون المزيد من التضحيات لإعادة تصويب البوصلة الوطنية، ووقف مسلسل التنازلات.
اختارت “الجبهة الشعبية” التوقيت الذهبي لهذا الخيار، حيث أنّنا على موعد مع حكومة صهيونية متطرفة تنوي ابتلاع ما تبقّى من الأراضي الفلسطيني وضمّ الضفة الغربية وتهويد القدس، ولا تقبل حتى الحديث عن خيار “حل الدولتين”، وبالتالي فإنّ الجبهة وضعت الأمور في نصابها، فالتطرف والإرهاب الصهيونييْن لن يُقابلا بالتنازلات ولا بالإنحناء للموجة، بل بالمواجهة وتصعيد المقاومة والتمسّك بالحقوق الفلسطينية الثابتة.
استراتيجية وطنية وتيار شعبي
في كلمة “الجبهة الشعبية” المركزية، التي قدّمها نائب أمينها العام جميل مزهر، أتبع إعلانه عن التخلي عن “الحل المرحلي”، بالإعلان عن خطوتين عمليتين ستشكّلان مدخلاً مهماً في إطار استعادة زمام المبادرة في المشروع الوطني الفلسطيني، مرتبطاً بثنائية المقاومة والوحدة.
أكد مزهر أنّ “الجبهة ماضية في عملها لأجل صوغ “استراتيجية وطنية موحّدة” على أسس وطنية تتمسك بالمقاومة خياراً رئيسياً وتحمي الحقوق وتضمن الحريات وتجسّد العدالة الاجتماعية، وتتصدّى لجماعات المصالح، ولوبيّات الفساد، وتدافع عن حقوق اللاجئين وتعزّز صمود شعبنا في الداخلِ المحتل”.
كما أكد أنّ “الجبهة ماضية مع كل الحريصين من القوى السياسية والمجتمعية والشخصيات الوطنية المستقلة لتشكيل تيار وطني وشعبي عابرٍ للجغرافيا والفئوية؛ هدفه استعادة الوحدة، وتنفيذ اتفاقات المصالحة، واستعادة وحدة الميدان”.
إنّ سعي “الجبهة الشعبية” لتثبيت الاستراتيجية الوطنية وتدشين التيار الشعبي مقترن من تشخيص دقيق للواقع، أن لا مشروع وطني بدون برنامج، والبندقية الغير مُسيّسة ستكون قاطعة طريق، وأنّ الفعل المقاوم حتى يؤتيَ ثماره، ويكون بحجم التحديات يجب أن يتكامل ضمن الاستراتيجية الوطنية المقاوِمة التي تتوافق عليها القوى الفاعلة.
كما أنّ الجبهة وإلى جانب استثمارها في تصعيد وتفعيل وتوسيع المقاومة، والاتفاق على استراتيجيات استمثارها الأمثل، فهي لن تقبل باستمرار الإنقسام والتفرّد بالقرار الفلسطيني، ومن هنا تنطلق ضرورة تشكيل التيار الشعبي الواسع، الذي سيتجاوز كل الحساسيات الفئوية مرتكزاً إلى ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية ومغادرة مربع الإنتظارية السلبية وإيقاف مسلسل رهن الشعب الفلسطيني لقرارات المنقسمين وأجنداتهم.
تعي “الجبهة الشعبية” بوضوح أنّ الوقت من دم، والتاريخ لن يرحم أحدا، وأنّ ضرورات المرحلة تتطلب مبادرة شجاعة وثورية تدقّ جدران الخزان بقوة، لتعيدَ البوصلة لموقعها الصحيح، إلى “فلسطين كل فلسطين”، من نهرها إلى بحرها جنباً إلى جنب مع كل المخلصين.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
أحمد الطناني, اتفاق أوسلو, الانقسام الفلسطيني, البرنامج السياسي, البرنامج المرحلي, البوصلة الوطنية, التسوية, التيار الشعبي, الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, الدبابات الصهيونية, الذكرى الـ55, السلام الاقتصادي, العدالة الاجتماعية, القضية الفلسطينية, الهبوط المتتالي, برنامج النقاط العشر, جميل مزهر, حل الدولتين, ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية, صمود, فلسطين كل فلسطين, فلسطين من البحر إلى النهر, مؤتمر مدريد, منطلقات الثورة, منظمة التحرير الفلسطينية, هنري كيسنجر