الطريق إلى “اللامنتمي”

التصنيفات : |
يناير 12, 2023 9:22 ص

*وسام عبد الله

 “الضحك سمة نبيلة كونه صفة جمعت الإنسان بالإنسانية ولعبت دور صوت الضمير الذي يخاطب الأرواح ويمتد، إلى الأبعاد التي لا نشعر بها”

(هنري برغسون)

جرى، خلال السنوات الماضية، تعميم حالة معينة عن القضية الفلسطينية والمقاومة، بأنّ كل من يسير في طريقها لا يتمتع بحب الحياة وينتهج “ثقافة الموت”، ورافق هذا الضخ الاعلامي أوضاع إقتصادية عملت جهات سياسية على ربطها أيضاً بأنّ المناصر للقضية سيعاني من ظروف معيشية صعبة. والمقصود هو تنميط المقاومة بصورة لا تجذب فئة المراهقين والشباب لدفعهم للابتعاد عنها، وكأنّ هناك تناقض بين الميل البديهي للفرح ومظاهره وبذات الوقت دعم المقاومة وتأييد القضية.

المقاومة والكوميديا الإرتجالية

لا يشكّل الضحك الهدف الوحيد للكوميديا، فالنصوص المكتوبة والعروض الإرتجالية تُعدّ أسلوباً لفتح طرقٍ جديدة للتعاطي مع القضايا الكبرى عبر تبسطيها وتفكيكها إلى قصص من حياتنا اليومية، فنستكشف زوايا لم نشهدها قبلاً نتيجة تعاطينا مع الأحداث من وجهة نظر محددة.

عندما يقدّم الكوميديون عروضهم المسرحية فهم يمتلكون القدرة والإمكانيات للوصول إلى وعي الناس والتأثير عليه، وهنا يكون الفرق بين العروض الهزلية التي ينتهي أثرها بانتهاء العرض، والكوميديا التي يدرك أصحابها مدى قدرتهم عبر القصة والدعابة بالتعبير عن المشاعر المعقدة.

تشكّل الكوميديا حالة رفض، فهي ليست مهادنة للحالة الإجتماعية والإقتصادية، بل أحد أشكال مساءلة الساسة والحكّام عن أدائهم، كونها لا تحتاج إلى ترتيب عناوين والتأني باستخدام المصطلحات السياسية، فتسليط الضوء لا يكون بالحديث المجرد عن المشكلة، إنّما بخروج المشاهد بعد انتهاء العرض والعودة إلى منزله ليتذكر دعابة في المسرحية أضحكته وحملت القدرة على طرح الأسئلة، حتى لو كانت الأسئلة القاسية التي تهزّ معتقدات يرفض صاحبها إعادة النظر بها. فأين المقاومة من العروض الإرتجالية؟.

إنّ العروض الكوميدية التي تستهدف المقاومة والمؤمنين بعدالة قضيتهم، من الداخل، لا تحتّم تشكيل حالة رفض للأسلوب الكوميدي وإنّما الاستفادة منه لدعم القضايا التي نؤمن بها

لكل مشروع فئة مستهدفة تشكّل البيئة الأساسية التي يرغب بالإنتشار في أوساطها، وكون الحرب على القضية الفلسطينية أحد فئاتها المستهدفة هم الشباب، فمن الضروري التوجه إليهم بكل الطرق المتاحة التي تصل إليهم. فالفائدة المرجوة لا تكون بالحديث مع إنسان يؤمن بالقضية ويدافع عنها بل بالتأثير الضروري على الإنسان “اللامنتمي” للقضية، فنحن أمام اختبار دائم يقودنا إلى إعادة التفكير بمسلّماتنا والقضايا المتفرّعة عنها. وعطفاً على ما تقدّم فإنّ العروض الكوميدية التي تستهدف المقاومة والمؤمنين بعدالة قضيتهم، من الداخل، لا تحتّم تشكيل حالة رفض للأسلوب الكوميدي وإنّما الاستفادة منه لدعم القضايا التي نؤمن بها.

الأدوات والمحتوى

المتابع للعروض الكوميدية التي تُقام في لبنان وخاصة الإرتجالية منها، يدرك قدرة هذا النوع من الفنون المسرحية على الإنتشار والرغبة بمتابعته بشكل مستمر، فهو إن كان يشكّل مساحة للتفريغ من ضغوط الحياة اليومية، إنّما يساعد على إعادة طرح الأحداث بعيداً عن الجدل السياسي ضمن البرامج التلفزيونية، فمشاكل الكهرباء والمياه والنظام الطائفي، أمور أصبحنا نعرف سلفاً بما سيحدّثنا المتحاورون عنها، فيذهب الشباب نحو العروض المسرحية لإعادة مشاهدتها بسلاسة وإبداع بالسرد القصصي، وربما بتجربة بسيطة، إن وضعنا إعلان عن ندوة حوارية أو مسرحية كوميدية، فإلى ماذا يميل العدد الأكبر؟.

الإرتجال والأدب الساخر لا يلغي الندوات والمؤتمرات، وما نحن بحاجة إليه، هو كل شيء، فالناس أذواق وثقافات متنوعة، وعدم حضورهم ندوة حوارية لا يعني أنّهم غير مهتمين، إنّما قد يكون عدم إيمان بجدوى هذا الأسلوب وليس عدم إيمان بالقضية المطروحة، وتوجُّه الشباب نحو العروض الكوميدية لا يعبّر بالضرورة عن عدم جدية واهتمام بالقضايا الأساسية، فربما تكون الرغبة بالمشاركة والتفكير بمرونة أكثر بمواقفنا تجاهها.

إنّ فلسفة الضحك وقدرتها على التغيير في المجتمع، تتطلب توسعاً أكبر في الاستثمار بها داخل القضية الفلسطينية، إن كان عبر العروض الخارجية والكتابات وأيضاً من خلال الإضاءة على الشباب الناشطين في تقديمها

تُعتبر مواقع التواصل الاجتماعي منصات مفتوحة للعروض التي لا تحتاج إلى تكلفة عالية من الأدوات، فهي تركز على المحتوى أكثر من الشكل، وهو ما يفسّر انتشارها ضمن منصات التسجيل الصوتي “بودكاست” دون الحاجة إلى الغرافيك والإضاءة وحتى المظهر الجميل للمؤدي. كما أنّ العروض الإرتجالية يكفيها مساحة صغيرة لتقديم محتواها ولا تقيّد نفسها بالأدوات المسرحية التقليدية، فالانسان وما يقوله هو كل ما يلزم.

“علماء الفكاهة”، هو المصطلح الذي يُطلق على الباحثين والفلاسفة المهتمين بتأثير الضحك والكوميديا على الحياة الإجتماعية والأفراد، ففي بريطانيا تأسّس مركز أبحاث الدراسات الكوميدية في جامعة “برونيل”، وأُطلقت الجمعية لدراسات الفكاهة، وغيرها من المنظمات والعلماء والفلاسفة، من أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى يومنا هذا، أدركوا أهمية فلسفة الضحك وقدرتها على التغيير في المجتمع، وهو ما يتطلب توسعاً أكبر في الاستثمار بها داخل القضية الفلسطينية، إن كان عبر العروض الخارجية والكتابات وأيضاً من خلال الإضاءة على الشباب الناشطين في تقديمها.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , ,