عن دلالات العَلَم الفلسطيني وسيكولوجية الاحتلال

التصنيفات : |
يناير 17, 2023 8:39 ص

*وسام عبد الله

يتكوّن عَلَم البلاد من قطعة قماش، لو قسّمتها إلى أجزاء وعرضتها منفردة على أي إنسان لن  ترى أي رد فعل له اتجاهها، لكن إن جمعتها وأعدت خياطتها بشكل علم وطني، فهذه القطع التي كانت لا تعني شيئاً أصبحت تمثّل رمزاً يحمل المعاني والدلالات، ليعبّر حامله عن موقفه، والعَلَم الفلسطيني له مساره الذي لا يتعدى فقط المعنى التاريخي في تسلسل تكوينه، بل بما يمثّله للشعب من انتماء وللعدو الصهيوني من خوف.

لماذا العَلَم الوطني؟

التعبير عن الهوية هو فعل إنساني يهدف إلى تأكيد الوجود والتعريف عن الشخص والجماعة، ففي مرحلة المراهقة نلاحظ كيف يتجه الشباب نحو اختيار ثياب وأكسسوارات تعبّر عن شخصياتهم وآرائهم الفكرية والسياسية والدينية، وحين ندخل قرية نجد سكانها يرتدون اللباس التقليدي فنقول إنّهم محافظون، وإذا دخلنا مدينة أوروبية يتشكّل انطباعنا عن منحى التحرر، كذلك الأمم، كل مرحلة من عمرها تحتاج إلى التعبير عن شخصيتها الاجتماعية بألوان ورموز وأشكال يتمّ ترميزها على العَلَم الوطني، فأيام الوحدة بين مصر وسوريا اختير علم بنجمتين للتعبير عن الدولتين، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خمسون نجمة تبدّلت أعدادها مع انضمام ولايات جديدة إلى الاتحاد.

حين يُطلب من فلسطيني أن يشرح عن عَلَمه قد يقول القضية. نحن لسنا بحاجة إلى الكتابة على العَلَم، لأنّ الرمزية تتجسّد بالألوان ورسمها وبساطتها

إنّ رمزية العَلَم كونه مساحة مشتركة بين مختلف فئات المجتمع، يعطيه طابعاً “مقدسا”، ليس لعدم إمكانية تبديله، فالتاريخ يثبت العكس، إنّما للمحافظة على التماسك والقاسم المشترك بين أبناء البلد. ودلالات العَلَم وإن كانت عمومية ومستوحاة من الطبيعة أو التاريخ أو حضارة البلاد، لكن يبقى لكل فرد تجربته الخاصة معه، فلو طلبنا من برازيلي أن يكتب ما يمثّله علَمَ وطنه فقد يكتب منتخب كرة القدم، وإن طلبنا من فرنسي أن يصف عَلَم النازية سيقول العنصرية، وحين يُطلب من فلسطيني أن يشرح عن عَلَمه قد يقول القضية. نحن لسنا بحاجة إلى الكتابة على العَلَم، لأنّ الرمزية تتجسّد بالألوان ورسمها وبساطتها.

فالعلم هو حاجة بديهية للتعريف عن نفسي من خلال تمايزي عن الآخر، وليس التمييز بالمعنى الأفضلية، بل بأن يكون رمزاً إنسانياً للتعبير عن مجتمع معين وليس تحويله إلى سلاح، فكل دولة استعمارية يتحول عَلَمها بالنسبة للبلد المُستعمَر إلى رمز للحقد والكراهية.

هشاشة عَلَم الكيان

صحيح أنّ كل الاعلام مصنوعة من قماش، لكن ما تمثّله هي مجتمعات حية، فتاريخ العَلَم الفلسطيني الذي تأسس مع الشريف حسين عام 1916 على أنّه عَلَم الثورة العربية الكبرى، وفي ما بعد تمّ اعتماده رسمياً عام 1988 علماً للدولة الفلسطينية من قِبل منظمة التحرير الفلسطينية، وحاربه الاحتلال وأصدر قوانين تمنعه مثل عام 1967 حين حظر استخدامه في أعمال فنية تحمل ألوانه الأربعة.

وفي كل مراحلة المقاومة وعلى اختلاف الفصائل والأحزاب، استمر العَلَم الفلسطيني حاضراً ليحافظ على المشترك في ما بينها، وأصبح جزءاً من أكفان الشهداء، والفِرق الفنية والمدارس والجامعات، ومع اللاجئين في المخيّمات والدول المتباعدة، والأغاني والأناشيد، فهو لم يعد مجرد رمزٍ سياسي أو سيادي، إنّما جزء من تفاصيل الحياة اليومية.

انتزاع الإنسان الفلسطيني من أرضه هو “غريزة” الاحتلال، فلا يناسبه بقاء ما يؤكد الخرافات التي استخدمها في تبرير تأسيس كيانه

أما من جانب الاحتلال، فمشهد كمين العَلَم، حين غضب جندي إسرائيلي من وضع عَلَم فلسطيني على السياج وحاول انتزاعه، كان كميناً من المقاومة وانفجر به، تعبّر هذه اللحظة عن الخوف والهستيريا الإسرائيلية من رؤية العَلَم، كونه يشكّل إلغاءً لوجودهم وتثبيتاً لحقّ الشعب الفلسطيني بوطنه. انتزاع الإنسان الفلسطيني من أرضه هو “غريزة” الاحتلال، فلا يناسبه بقاء ما يؤكد الخرافات التي استخدمها في تبرير تأسيس كيانه، والحالة المتوحشة لدى المستوطنين في سلوكهم مع حاملي العَلَم الفلسطيني، ناتجة عن عدم الثقة، حتى لو لم يعلنوها، بما يمثّله عَلَمهم، فالواثق من صدقية رموزه يكفيه الانتماء لها وتأكيدها والتعبير عنها، أما حين تُمزّق وتحرق وتمنع رفع العَلَم الفلسطيني في كل مناسبة وطنية أو مظاهرة احتجاجية… لا مبرر له سوى الخوف من حامله والرعب من دلالته التي تعبّر عن جذور الشعب الفلسطيني.

احترام العَلَم الفلسطيني

ليس كل من رفع العَلَم هو إنسان وطني، فالبعض يحوّله إلى عباءة يمرّر من تحتها مشاريعه وأهدافه، فالدول المطبّعة تسمح برفع العَلَم الفلسطيني، والأمم المتحدة اعترفت بعَلَم فلسطين على أعمدتها الخارجية كرايةٍ مع باقي أعلام الدول الأعضاء، وغيرها من الشخصيات والمنظمات كذلك الأمر، ولكن في غالب الأحيان لا يهم ما يظهر في الشكل إنّما ما يعكسه المضمون والعمل السياسي. فالمحافظة على العَلَم الفلسطيني وتعريف الناس به وتثبيته في وعي المجتمعات العربية والأجنبية، هو جزء من عملية المقاومة والصمود، إضافة إلى عدم الوقوع في فخ الشكليات والابتعاد عن الجوهر.. إنّه العَلَم رمز حقّ الشعب الفلسطيني في الحياة.  

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,