السلطة الفلسطينية واللهاث خلف السراب
فبراير 21, 2023 8:42 ص*أحمد الطناني – غزة:
كعادتها، وافقت السلطة الفلسطينية على سحب مشروع قرار إدانة الاستيطان من مجلس الأمن، لاهثةً خلف سراب الوعودات والضمانات أملاً في إحياء مسار مات و”أكل عليه الدهر وشرب”، المسار التفاوضي الذي لم تنجح محاولات إحيائه منذ رحيل حكومة “أولمرت” كما لم تفلح سنوات المفاوضات في تحقيق أي إنجاز حقيقي.
مشروع القرار الذي كان من المفترض أن تقدّمه الإمارات المتحدة، العضو العربي في مجلس الأمن، تمّ سحبه قبل يوم واحد من موعد التصويت وتحويله من مشروع قرار إلى مشروع بيان رسمي يستخدم معظم اللغة المصاغ بها المشروع.
الإمارات سحبت المشروع بناءً على موقف مؤيد لسحبه اتخذته السلطة الفلسطينية بعد سلسلة من الاتصالات واللقاءات مع المسؤولين الأمريكيين أشرف وشارك بها بشكل مباشر وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكن” الذي أدار قناة اتصال ساخنة مع كل من السلطة والإمارات وحكومة الاحتلال للوصول لصيغة تعفي الجميع من جولة التصويت في مجلس الأمن.
اتفاق “تجميد الخطوات الأحادية”
تطابقت أخبار المصادر العبرية والأمريكية والعربية التي كشفت عن الصيغ التي استطاعت الولايات المتحدة الوصول إليها مع الطرفين لتجاوز طرح المشروع للتصويت في مجلس الأمن، حيث ينص التفاهم على:
- التزام “إسرائيل” بتجميد خطط البناء في المستوطنات لعدة شهور.
- تجميد هدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية و”القدس الشرقية” لعدة شهور.
- تجميد إخلاء الفلسطينيين من منازلهم في المناطق المصنفة “ج” لعدة شهور.
- تقليل عمليات الاقتحام من جيش الاحتلال للمدن الفلسطينية.
- الإدارة الأمريكية التزمت بدعوة الرئيس أبو مازن لواشنطن خلال العام القادم للقاء الرئيس الأمريكي بايدن مقابل تأجيل التصويت ضد الاستيطان في مجلس الأمن القومي.
- الولايات المتحدة التزمت أمام السلطة على تقديم طلب لـ”إسرائيل” لفتح القنصلية الأمريكية في القدس.
- موافقة حكومة الاحتلال على إجراء بعض التغييرات في مجال الضرائب على جسر اللنبي حيث ستدخل لموازنة السلطة أكثر من 200 مليون شيكل سنويا.
- موافقة السلطة الفلسطينية على تنفيذ الخطة الأمنية التي وضعها المنسق الأمني الأمريكي مايك فيتزل لإعادة سيطرة السلطة على جنين ونابلس.
- موافقة السلطة الفلسطينية على العودة إلى المحادثات لإعادة التنسيق الأمني مع الاحتلال.
الحاجة الأمريكية لتجنُّب الإحراج الدولي
وضعت الولايات المتحدة كل ثقلها من أجل تعطيل التصويت على مشروع القرار الذي يدين الاستيطان في مجلس الأمن، ومارست جولات مكوكية استعانت فيها بكل أوراق القوة والضغط بما فيها إشراك العديد من اللاعبين في الأقليم بما فيهم الإمارات ومصر والأردن بغرض تحقيق تعطيل الخطوة.
إنّ اعتبارات الولايات المتحدة التي دفعتها للضغط من أجل سحب المشروع مرتبطة أساساً بالموقف المُحرج الذي ستكون فيه في حال تمّ عرض المشروع للتصويت، حيث ستكون أمام خيارين لا تريد الاختيار بينهما، أولهما هو قبول تمرير القرار عبر الامتناع عن التصويت عليه وعدم نقضه بحقّ “الفيتو” وهو ما سيُحسب بمثابة التخلي عن دورها المعتاد في حماية والدفاع عن مصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي.
أما الخيار الثاني فهو السلوك المعتاد للولايات المتحدة المتمثّل في نقض القرار باستخدام حقّ “الفيتو” وتعطيل التصويت عليه في مجلس الأمن، مما كان سيضعها في موقف محرج إذ أنّه سيكون سلوكها متناقضاً ويعكس ازدواجية وقحة في المعايير والانفصام ما بين الموقف والممارسة، حيث أنّ الموقف الأمريكي المُعلن رافض للتوسع الاستيطاني، ويدعم ما يُسمّى بـ”حل الدولتين”، ونقض قرار يدين الاستيطان يناقض بوضوح هذا الموقف، مما سيعطي مجالاً لاستحضار الانحياز الأمريكي الكبير لأوكرانيا في وجه روسيا متذرعةً بقيم الديمقراطية والحرية والعدالة، بينما تمارس العكس عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني وجرائم الاحتلال بحقّه.
ما يزيد الضغط هو أنّ مشروع القرار كان يحظى بدعم العديد من الدول الأعضاء في مجلس الأمن وبشكل خاص كل من روسيا والصين، وهو ما يعني أنّ الاستخدام السياسي للسلوك الأمريكي سيكون على أشده في حال نقضت مشروع القرار باستخدام حقّ “الفيتو”.
أهمية قرار إدانة الاستيطان في مجلس الأمن
بالرغم من أنّه ليس لنجاح التصويت على القرار أهمية عملية على الأرض باعتبارها خاضعة بكل الأحوال للاحتلال الإسرائيلي منذ 1967، إلا أنّ قوته تتمثّل في الرمزية الكبيرة للتأكيد الدولي على عدم شرعية الاستيطان بقرار من مجلس الأمن، يُضاف إلى قرارات الشرعية الدولية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني.
إنّ مشروع القرار الجديد لا يختلف جوهرياً عن قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي تبنّاه مجلس الأمن يوم 23 كانون الأول/ديسمبر 2016، بعد أن امتنعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عن التصويت، مما سمح بنجاح القرار حيث صوّت له 14 عضواً وأصبح الأول من نوعه منذ 1979، وطالب فيه مجلس الأمن “إسرائيل” بوقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية.
الصراع في المحافل الدولية ما بين الجهد الفلسطيني الساعي للتأكيد على أحقّية القضية الفلسطينية وحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه، وما بين الرواية الصهيونية التي تدّعي شرعية وقانونية وأخلاقية الكيان الصهيوني القاتل، يقع ضمن المعركة التاريخية ما بين الرواية الصهيونية والرواية الفلسطينية والجهد المستمر لحملات المقاطعة ونشاطات عزل الكيان وملاحقته، وهو ما يرى فيه الاحتلال نشاطاً معادياً مؤذياً يذكّره في كل لحظة بأنّه لن يتحول إلى كيان طبيعي في العالم وسيبقى بصورة المُحتل والقاتل.
خلاصة
فعلياً لم تقدّم حكومة الاحتلال أي تنازل جوهري، وما يتمّ الحديث عنه هو تجميد لعدة شهور تبحثه مستويات صنع القرار في حكومة الاحتلال فعلياً لنزع فتيل التوتر ومنع اشتعال انتفاضة فلسطينية تحذّر منها كل أجهزة الأمن الصهيونية خصوصاً مع زيادة التوتر الذي سيصل أشده مع حلول شهر رمضان.
للمفارقة، فقد نصّ التفاهم على تقليل اقتحامات جيش الاحتلال للمدن الفلسطينية، وفي نفس ليلة الاتفاق اقتحم جيش الاحتلال مدينة نابلس ليأخذ قياسات منزلين لأسرى فلسطينييْن تمهيداً لهدمهما، وهو ما يعكس بوضوح حجم الجدية الذي يتعامل به الاحتلال مع كافة الالتزامات المقدّمة للسلطة!.
تؤكد السلطة الفلسطينية والقيادة المهيمنة مجدداً على تمسكها بالسعي خلف أوهام “الحل السلمي” و”التفاوض مع الاحتلال” والقبول بصيغ ممسوخة لا تلبي أقل من الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني، في وقت تستمر فيه حكومة الاحتلال الفاشية في المسارعة بإجراءات ابتلاع الأرض والتوسع الاستيطاني ومحاربة كل ما هو فلسطيني والعمل على فرض وقائع جديدة في القدس والتضييق المستمر على الأسرى والفلسطينيين في الداخل المحتل.
تُثبت السلطة الفلسطينية، كعادتها، أنّ المسار الدبلوماسي الدولي ليس خياراً استراتيجياً (كما تدّعي) يهدف إلى ملاحقة الاحتلال بل تكتيكاً تعتمده السلطة لتحريك المياه الراكدة وإعادة الأمل بإحياء عملية المفاوضات حيث سحبت القرار الدولي مقابل مجموعة من الوعودات الشكلية والتسهيلات، وحجز مكان على أجندة الرئيس الأمريكي “بايدن” الذي وعد باستقبال رئيس السلطة في واشنطن خلال الفترة القادمة!.
ينص التفاهم على قبول السلطة الشروع في تنفيذ المقترحات والمخططات الأمريكية التي حملها وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” ورئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) “ويليام بيرنز” إلى السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال لوقف التصعيد ومواجهة تصاعد الفعل المقاومة وإجهاض إمكانية الوصول لانتفاضة فلسطينية، بما فيها تنفيذ خطة “فيتزل” الداعية لتشكيل قوة أمنية فلسطينية تتولى مهمة مواجهة مجموعات المقاومة في نابلس وجنين والقضاء عليها، وهو ما يفتح الباب على احتمالات واسعة لإنخراط السلطة في أنشطة أمنية كبيرة بهدف استئصال خلايا المقاومة الناشطة في شمال الضفة الغربية، ويضرب بعرض الحائط كل التوافقات الوطنية على ضرورة تصعيد الفعل المقاوم في مواجهة مخططات التصفية الصهيونية.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
أتوني بلينكن, أحمد الطناني, أنتوني بلينكن, إدانة الاستيطان, اقتحام, الإمارات, الاحتلال الإسرائيلي, الاستيطان الصهيوني, التنسيق الأمني, الخطة الأمنية, السلطة الفلسطينية, القدس, الكيان الصهيوني, المستوطنات الإسرائيلية, الولايات المتحدة الأمريكية, تصويت, جسر اللنبي, حقّ الفيتو, حل الدولتين, خطة فيتزل, فلسطين المحتلة, مجلس الأمن, مفاوضات, مقاومة, هدم منازل الفلسطينيين