حيّ القطمون .. ذاكرة منير شفيق والكلام العابر

التصنيفات : |
أبريل 8, 2023 8:44 ص

*حمزة البشتاوي

كماء يضيء ورائحة صلبة كالحجر، يتميز حيّ القطمون في مدينة القدس، بالبيوت ذات الطراز المعماري الجميل، كحكاية المكان وسكانه الطيبين، ومعظمهم من الطبقة الفلسطينية الوسطى، والمبدعين في عدة مجالات كالطب والأدب والمحاماة، ومنهم الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وخليل السكاكيني رائد التجديد الفكري والأدبي في فلسطين، وهو الذي بنى منزلاً جميلاً له في حيّ القطمون عام 1937 وأطلق على غرفه أسماء دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء وطهران.

وكانت معظم بيوت الحيّ تحيط بها حدائق ولها مداخل ذات هندسة راقية تعكس الطابع الجميل والأصيل للحيّ الذي كان مقصداً للزوار وموقعاً للعديد من القنصليات خاصة إيران والعراق ولبنان ومصر.

ومن دون أي إحساس أو معرفة عن (كيف يبني حجر من أرضنا سماء) يتحدّث بنيامين نتنياهو ذو الأصول البولندية وبلكنة عائلته التي جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية وتحمل جنسيتها، عما يسمّيه “طفولته في حيّ القطمون”، من دون أي معنى أو إرتباط بالحيّ وتاريخه وهويته، سوى مروره العابر في المكان والسكن في حيّ القطمون بسبب إستيلاء العصابات الصهيونية عليه وتهجير سكانه، ومن ثم قيام ما يُسمّى بـ”القيّم” على الأملاك المسلوبة بإعطاء منزل تملكه عائلة الدكتور توفيق كنعان إلى عائلة نتنياهو في العام 1949.

لم يعرف بنيامين نتنياهو الطفل والجندي والسياسي حكايات وأشجار وطرقات وألعاب حيّ القطمون بل عاش فيه غريباً ومستغربا، وكان يظنه حيّاً بلا قلب وفيه أصوات تحاصره في الليل والنهار

ولم يعرف بنيامين نتنياهو الطفل والجندي والسياسي حكايات وأشجار وطرقات وألعاب حيّ القطمون بل عاش فيه غريباً ومستغربا، وكان يظنه حيّاً بلا قلب وفيه أصوات تحاصره في الليل والنهار، ولذلك غادره إلى الولايات المتحدة في العام 1963 دون أن يعرف من الحيّ شيئاً سوى إسمه، ولم تكن له أي علاقة معه سوى العلاقة المادية، حيث أصبح ثمن المنزل الذي إستولت عليه عائلته حوالي المليوني دولار، وهذا المبلغ كان من الأسباب الرئيسية لجعل إسم بنيامين نتنياهو يُذكر في قائمة الأغنياء الإسرائيليين.

وارتبطت هذه العلاقة المادية بالمكان بعنصر القوة العسكرية والاحتلال، وهي علاقة تختلف كلياً عن العلاقة الطبيعية مع الحيّ وسيرته وأبنائه الحقيقيين ومن بينهم المفكر الفلسطيني منير شفيق

وارتبطت هذه العلاقة المادية بالمكان بعنصر القوة العسكرية والاحتلال، وهي علاقة تختلف كلياً عن العلاقة الطبيعية مع الحيّ وسيرته وأبنائه الحقيقيين ومن بينهم المفكر الفلسطيني منير شفيق وهو صاحب علاقة حب وإنتماء مع الحيّ الذي يعتبره أول العمر وبداية الحياة، والمنزل الجميل المقيم في القلب والذاكرة التي ما زالت تطلّ من نافذة الغربة القسرية على منزل كان يرتدي قبعة من القرميد الأحمر تحيط به أشجاء السرو وبداخله أشجار الفاكهة وشجيرات الورود وألعاب الطفولة والكثير من الضحكات والذكريات.

وأرتبطت القدس والحيّ والمنزل والحديقة في ذاكرة منير شفيق بحالة عشق أبدي دائمة النبض والتوهج وتحمل ملامح واضحة جداً عن أعشاب البيت والزعتر والياسمين والإصرار الدائم على مقاومة الإقتلاع والترحيل.

وبعيداً عن هذه الذاكرة وحقائق الثقافة والجغرافيا والتاريخ التي يمتلكها منير شفيق، كتبت إيلانا هامرمان وهي كاتبة ومترجمة إسرائيلية جاءت أيضاً من بولندا مقالاً تقول فيه: “حيّ القطمون مدينتي، وفيه بيتي الذي سكنت فيه عشرين سنة مع عائلتي”، ثم تتحدّث عن أحياء في الجزء الشرقي من مدينة القدس معلنة التضامن مع بعض السكان الفلسطينيين فيها، وهذا خداع وتضليل تمارسه الدعاية الصهيونية لإضفاء طابع شخصي والإدعاء بإرتباط ثقافي وإجتماعي في القدس، محاولين المس بمكانتها وأصالتها وقدسيتها ورسوخها العميق في الوجدان والضمير الفلسطيني والإنساني. وسوف يبقى الفلسطينيون يحملون راية الدفاع عنها كما ستبقى

 ذاكرة منير شفيق وكل الذين لم يفقدوا الأمل َ شكلاً من أشكال المقاومة وإبقاء الصوت عالياً بمواجهة مستمرة مع “الكلام العابر وأكاذيب الغزاة”.

*كاتب وإعلامي


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,