الصراع السوداني في منظور الاستراتيجية “الإسرائيلية”

التصنيفات : |
أبريل 27, 2023 5:58 ص

*أحمد حسن

تكشف الإطلالة السطحية على أحداث السودان عن “إسرائيل” كأحد المتضررين من الصراع الدامي بين “صديقيها” هناك، رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، و قائد قوات “الدعم السريع”، محمد حمدان دقلو، لأنّ هذا الصراع يؤخّر، على ما هو معلن، التوقيع الرسمي على اتفاقية التطبيع معها.

ويؤكد هذا الانطباع الأولي مسارعة “تل أبيب”، سواء بالمشاركة مع واشنطن أو منفردة، في التوسّط بين الطرفين المتنازعين لأنّ “الإسرائيليين يتطلعون لتجاوز هذه الأزمة بغض النظر عن الطرف الذي سينتصر فيها” كما يقولون.

بيد أنّ نظرة أوسع وأعمق للوضع تقول إنّ هذا “الضرر” نسبي، فعلى أهمية اتفاقية التطبيع وضرورة توقيعها إلا أنّ مردود “إسرائيل” من تعمّق الجرح السوداني وتأزّم الوضع هناك، ولو لم تكن هي المبادِرة إليه، يبدو أكبر بكثير من احتفالية علنية ليس لها سوى أن تؤكد المؤكد، وهو استكمال خروج السودان إلى مرحلة غير منظورة من الصراع العربي – الإسرائيلي، في ما يرفع هذا الصراع الجديد من حدة حاجة طرفيه لها وتجاوزهما كل الخطوط الحمراء في سبيل ذلك، وهو ما يبرزه قول المستشار السياسي لقائد قوات الدعم “يوسف عزت”  لقناة كان العبرية: “ما نتعرض له تعرضت له “إسرائيل” آلاف المرات من المجموعات الإرهابية مثل حماس والمنظمات الأخرى التي يعرفها الشعب الإسرائيلي جيدا”!، محاولاً رفع “مظلوميته” إلى مستوى “المظلومية” الإسرائيلية المدّعاة وربط “قضيته” بـ”قضيتها”، بل وإعادة تأكيد وقوفه إلى جانبها في موقفها من المقاومة، وبالطبع لن يتأخر “البرهان” عن أمر مماثل في القريب العاجل.

فالخرطوم التي أعلن منها العرب “لاءاتهم” الشهيرة بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، أصبحت خيوط سياستها وساستها بيد “إسرائيل” ذاتها بعد أن جرف طوفان نهر “الواقعية السياسية” -وهي الإسم الملطّف للتراجعات- هذه “اللاءات” وألقاها في بحر التطبيع العلني والسري مع “إسرائيل”

بهذا المعنى تصبح “إسرائيل” أحد الرابحين الكبار مما يحدث، فالخرطوم التي أعلن منها العرب “لاءاتهم” الشهيرة بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، أصبحت خيوط سياستها وساستها بيد “إسرائيل” ذاتها بعد أن جرف طوفان نهر “الواقعية السياسية” -وهي الإسم الملطّف للتراجعات- هذه “اللاءات” وألقاها في بحر التطبيع العلني والسري مع “إسرائيل”، وألقى، في طريقه، بالسودان ذاته في بحر من الفوضى والتقسيم والنزاعات الدموية الدائمة ليجد نفسه أواخر عام 2020 تحت قيادة “ثورة” ركبها العسكر الذين وجدوا باسم “الواقعية” ذاتها طريقهم نحو “إسرائيل” لتطبيع العلاقات معها مقابل رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، لكنّها، أي “الثورة” لم تستطع حتى اللحظة تطبيع علاقاتها مع الشعب الذي قامت افتراضياً لأجله، بل لم تستطع تطبيع العلاقات بين “عسكرها” أنفسهم فكانت الحرب الدموية التي لا زلنا نتابع فصولها حتى الآن وذلك أمر طبيعي ومفهوم في ضوء دروس التاريخ القريبة قبل البعيدة.

“كلما زادت قيمة المصالح والعائدات المتوقعة زاد التكالب الدولي على البلد المعني”

والحال، فإنّ المدقق في التاريخ يعلم أنّ السودان الكبير الموحّد والمستقر، بغض النظر عن اسم وتوجهات حكامه، يبقى في المنظار الغربي و”الإسرائيلي” أكبر مما يجب كي يبقى دولة موحّدة، والهدف هو الهيمنة على ثرواته ومقدّراته، عن طريق تفتيته وتجزئته إلى دويلات وكانتونات متجاورة مأزومة داخليا، ومتنافسة في ما بينها، ما يعني حالات انفصال متتالية أو حالات مزمنة من عدم الاستقرار، والسبيل لتحقيق هذا الهدف هو إبقاء السودان تحت مختلف أنواع الضغوط، تتنازعه الحروب الداخلية والتهديدات الخارجية، بما يسمح للأيدي الخارجية بالعبث به حينما تريد.

واستطرادا، يجب التأكيد على حقيقة أنّ مأساة السودان لا تقتصر على العامل “الإسرائيلي” فقط، فهناك لاعبين دوليين كباراً يشاركون فيها طمعاً بثرواته الهائلة واتساقاً مع النظرية التي تقول “كلما زادت قيمة المصالح والعائدات المتوقعة زاد التكالب الدولي على البلد المعني”.

وبالعودة للعامل “الإسرائيلي” لا بد من التذكير بقيام “اللوبي الإسرائيلي” منذ نحو عقدين من الزمن بتشكيل تحالف في أمريكا حمل اسم “إنقاذ دارفور” بهدف إدامة اشتعال النار هناك لا إطفائها، ضم في عضويته أكثر من 150 منظمة يهودية أمريكية إضافة إلى بعض المنظمات التابعة لليمين المسيحي الصهيوني الأمريكي، فضلاً عن أعضاء وشخصيات يهودية ذات نفوذ في بعض الأحزاب الأمريكية والكونغرس الأمريكي، وهو جهد توّجته “إسرائيل” بتقديم مساهمة كبرى في تقسيم السودان عام 2011 كما كشف كتاب “مهمة الموساد في جنوب السودان” الصادر عام 2015 تنفيذاً للنظرية الإسرائيلية القائلة “بشدّ الأطراف ثم بترها” والتي كان السودان أحد ضحاياها الكبار.

في هذه المرحلة التي يتنافس فيها طرفا النزاع في السودان على تقديم الولاء لـ”إسرائيل” في محاولة لاجتذاب تأييدها لكل منهما، يصبح من الطبيعي أن يدعو ساسة “إسرائيل” الطرفين لبحث السلام بينهما في “تل أبيب”!

وبالطبع فقد شهدت المرحلة اللاحقة على “البتر” وخاصة بعد ما سُمّي بالربيع العربي تنافساً بين الطرفين السودانيين المبتورين، كما بين الساسة، والعسكر، في كل منهما، على علاقة جيدة مع “إسرائيل” بدعم حثيث، ترغيباً وترهيبا، من واشنطن وجماعة “اتفاقيات أبراهام” العلنيين والسريين وصولاً إلى هذه المرحلة التي يتنافس فيها طرفا النزاع في السودان على تقديم الولاء لـ”إسرائيل” في محاولة لاجتذاب تأييدها لكل منهما، ليصبح من الطبيعي أن يدعو ساسة “إسرائيل” الطرفين لبحث السلام بينهما في “تل أبيب”!، وهذا ما يفصح عن المكسب “الإسرائيلي” الجديد من هذا الصراع. 

السودان ضحية الفوضى الخلاقة والأطماع الخارجية و”لاءاته” الشهيرة ضد الكيان الصهيوني، هذا حقيقي، لكنّه أيضاً ضحية طغمة حاكمة تجد أنّ التنازل أمام الخارج والخضوع له أفضل لمصالحها الشخصية، من بناء دولة حقيقية لكل مواطنيها، وتلك هي المسألة.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,