من “سطر” النكبة إلى دفاتر الحرية

التصنيفات : |
مايو 15, 2023 6:45 ص

*أحمد حسن

عام 1799، أطلق “نابليون بونابرت” شارة البدء في المجزرة العالمية التي سُميت عربياً بـ”النكبة” وعالمياً بـ”قيام الدولة اليهودية” حين أصدر خلال حملته على المنطقة بياناً أعلن فيه ضرورة إنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين تحت حماية فرنسية بهدف إصابة عصفورين بحجر واحد، تعزيز الوجود الفرنسي في المنطقة، وإيجاد “حل” للمسألة اليهودية التي كانت تقضّ مضجع أوروبا المسيحية بكاملها منذ قرون عدة.

والحاصل أنّ العصافير “البونابرتية” ذاتها -وذلك ما يكشف عنه “ناحوم جولدمان” حين برّر اختيار فلسطين كمكان للمشروع بقوله: “لأنّها ملتقى طرق أوروبا وآسيا وإفريقيا، ولأنّ فلسطين تشكل بالواقع نقطة الارتكاز الحقيقية لكل قوى العالم، ولأنّها المركز الاستراتيجي للسيطرة على العالم”- كانت خلف وعد “من لا يملك لمن لا يستحق” لصاحبه “اللورد بلفور”، ثم كانت أيضاً خلف تحقّقه عملياً عام 1948.

وبين عامي 1799 (عام البيان الفرنسي)، و1948 (عام النكبة الفعلية)، لم تتوقف المحاولات الصهيونية، والغربية عموما، لإنجاح هذا المشروع -والوثائق التاريخية في هذا المجال أصبحت، بأغلبيتها الكاسحة، متاحة للجميع- لكن استمرار “المشروع” حتى اليوم لم يكن ممكناً إلا بسبب حقيقتين دامغتين، أولاهما، أنّ ما يُسمّى بالمجتمع الدولي “حمى بأسنانه من لا يستحق”، والحقيقة الثانية أنّ بعض إخوة “الضحية” شارك في ذلك، بصمته، بتخاذله، والبعض بأسنانه أيضا، حتى استحق صرخة الضحية المفجوعة: “لوودت والله أن “العدو” صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم”.

وإذا كانت “النكبة” قد تحققت فعلياً بقوة السلاح وفعل “الخيانة” والتخاذل في الآن ذاته، فإنّها استندت أيضا، من أجل تثبيت نتائجها كحقيقة نهائية أبدية، إلى قاعدتين متوازيتين ومتكاملتين، أولهما، نفي الفلسطيني من المكان/الجغرافيا، وثانيهما نفيه من التاريخ/الذاكرة، بحيث لا يكون له حقّ الوجود الحالي في أرضه لأنّه غير موجود سابقا، وذلك ما ساهم به بنشاط ومثابرة مدهشة بعض العلماء والمفكّرين الجدد”من عرب الردة الوطنية والأخلاقية بدعم من وسائل الإعلام المهيمن، وصولاً إلى محاولة زرع “إسرائيل” في الوعي الجمعي العربي كحليف ضروري للعرب “المعتدلين والحضاريين” في مواجهة “المتطرفين”.

ذلك، اختصارا، كان حالنا خلال العقود الماضية حيث يتدثر “القاتل” سنوياً بعباءة مهنّئيه عرباً وأجانب، وتلتحف الضحية دماءها في ما بعض أهلها يطالبها بالصمت والاستسلام والرضوخ لقدرها “الطبيعي” و”التاريخي” بحسب هؤلاء.

بيد أنّ احتفال العالم، ومعه القاتل، يبدو مرتبكاً هذه المرة في ظل تغيّرات جيوسياسية واستراتيجية في المواقع والحقائق والموازين بالتوازي مع بدء تخلخل ميزان القوى العالمي، الذي كان دائماً في مصلحة “إسرائيل” منذ بداية القرن الماضي، لمصلحة حلف ينادي بدعم نضال البلدان النامية ضد الاستعمار الغربي الجديد

بيد أنّ احتفال العالم، ومعه القاتل، يبدو مرتبكاً هذه المرة في ظل تغيّرات جيوسياسية واستراتيجية في المواقع والحقائق والموازين -التي بدأت كفّتها تميل شيئاً فشيئاً لصالح الضحية التي، وللحقيقة التاريخية، ما بخلت يوماً بما يثقل هذه “الكفّة” من دماء وأرواح ويمنع القاتل من تحقيق انتصاره الكامل- بالتوازي مع بدء تخلخل ميزان القوى العالمي، الذي كان دائماً في مصلحة “إسرائيل” منذ بداية القرن الماضي، لمصلحة حلف ينادي بدعم نضال البلدان النامية ضد الاستعمار الغربي الجديد، لينتجَ ذلك كلّه خللاً كبيراً في تماسك الحلف العالمي الداعم لـ”إسرائيل” سياسياً واقتصادياً واجتماعياً نقُصت معه قيمة “إسرائيل” حتى في نظر حلفها ذاته وذلك ما تكشفه وثيقة “سرّية صادرة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية” تتحدث عن تراجع المكانة السياسية لـ”إسرائيل” على المستوى العالمي.

منذ البداية “البونابرتية” وحتى الآن لم تكن “إسرائيل” إلا كياناً وظيفياً بُني على مزج مريب من حمولات أسطورية لا تاريخية وأهداف استعمارية فاشية، ما جعله يحمل، منذ البداية، بذور سقوطه وفنائه لأنّه وُلد نتيجة خطيئة كبرى لا مجرد خطأ فادح ما

والحال، فإنّ هذه الأمور مجتمعة انعكست فورا -نظراً لارتباط “الكيان” العضوي والبنيوي بهذا الحلف العالمي- خللاً في الداخل الإسرائيلي ذاته تمدّد في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، بل والعسكرية والأمنية أيضا، ووصل، أو كاد، إلى مرحلة الحرب الأهلية والتي تقول كل المؤشرات السياسية، حتى الإسرائيلية منها، أنّها قادمة ولو بعد حين الأمر الذي سيكون له أثر كبير ليس على مستقبلها فقط بل على وجودها ذاته.

محصلة القول، منذ البداية “البونابرتية” وحتى الآن لم تكن “إسرائيل” إلا كياناً وظيفياً بُني على مزج مريب من حمولات أسطورية لا تاريخية وأهداف استعمارية فاشية، ما جعله يحمل، منذ البداية، بذور سقوطه وفنائه لأنّه وُلد نتيجة خطيئة كبرى لا مجرد خطأ فادح ما، لكن إسقاطه يحتاج إلى عمل من أصحاب القضية يغذي هذه البذور وينمّيها وذلك ما تفعله دماء الشعب الفلسطيني مع مطلع كل شمس.. والأيام حبلى.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,