“قمة جدة” والرقص على إيقاع عالم جديد

التصنيفات : |
مايو 22, 2023 7:08 ص

*أحمد حسن

ربما كانت الفقرات الثلاثة التالية من خطاب الرئيس السوري بشار الأسد أمام “قمة جدة” خير معبّر عن موقعها ومكانتها وتوجّهاتها باعتبارها، أي القمة، لحظة اقتناص “ذكية”، إن اكتملت شروطها ومآلاتها، للتغيّرات الدولية في عالم اليوم، حيث قال الأسد: “إنّ أمام العرب فرصة تبدُّل الوضع الدولي الذي يتبدى بعالم متعدد الأقطاب”، وتلك “فرصة تاريخية لإعادة ترتيب شؤوننا بأقل قدر من التدخل الأجنبي”، الأمر الذي “يتطلب إعادة تموضعنا في هذا العالم الذي يتكون اليوم كي نكون جزءاً فاعلاً فيه”.

والحال، فإنّ مجمل الصور والرسائل التي “بثّتها” القمة كانت تأكيداً على تلك الفقرات وعلى بدء العرب أولى خطواتهم الجديّة والجامعة -وإن نسبيا- بالرقص على إيقاع عالم جديد، ويمكن، لضرورات التحليل، اختصار هذه الرسائل باثنتين: أولهما، انضواء العرب جميعا -وإن على مضض عند البعض- تحت جناح ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” وتوجهاته ورؤاه، وبالتالي تأكيد زعامته الحالية للمنطقة العربية، وثانيتهما، بدء إهالة التراب على المرحلة الماضية بكل تشعباتها وخلفياتها الناجمة عن قرار وإرادة القطب الواحد، سواء جاءت على شكل “الربيع العربي” أو على صورة “الاتفاقات الإبراهيمية” و”صفقة القرن”، لكن ليس بصورة مضادة بالمطلق بل وفق رؤية عربية جديدة/قديمة للمنطقة وصراعاتها، وربما كان إصرار “بن سلمان” على عودة سوريا للجامعة وجهوده الكبيرة لتسريع ذلك تأكيداً للأول، أي زعامته، والعودة في الإعلان الختامي، إلى المبادرة العربية الشهيرة للسلام مع “إسرائيل” تأكيداً للثاني.

كان حضور “زيلينسكي” رسالة عربية، سعودية بالأساس -“بن سلمانية” تحديدا-، بشقين: أولهما، اتقاء شر الغرب، واشنطن تحديدا، عبر القول له إنّنا لم نغادر مركبه بالمطلق، والثاني، القول للشرق إنّنا، كعرب، مجموعة ذات قرار مستقل، وذلك “القول” بشقيه هو أبرز ما أراده “بن سلمان” من القمة

أما الصور المعبرة عن صدق الرسالتين السابقتين فهي عديدة للغاية، فمثلاً كان غياب رئيس دولة الامارات العربية بصفته اعتراضاً مبطّناً على الجملة الأولى، (زعامة بن سلمان)، تأكيداً لها من جهة معاكسة، وإذا كانت مغادرة أمير قطر للقمة أثناء انعقادها اعتراضاً على الرسالة الثانية، فقد كان الحضور الواثق للرئيس السوري تأكيداً لها، في ما كان حضور “زيلينسكي” رسالة عربية، سعودية بالأساس -“بن سلمانية” تحديدا-، بشقين: أولهما، اتقاء شر الغرب، واشنطن تحديدا، عبر القول له إنّنا لم نغادر مركبه بالمطلق، والثاني، القول للشرق إنّنا، كعرب، مجموعة ذات قرار مستقل، وذلك “القول” بشقيه هو أبرز ما أراده “بن سلمان” من القمة، لذلك مثلاً لاحظنا هذه المرة غياب “فقهين” كان العرب على موعد معهما في ختام كل قمة، أولهما، فقه البلاغة الحماسية على وزن “تخرّ له الجبابر ساجدينا”، وثانيهما، فقه التراجعات والتسويات، على مبدأ أنّ “99” بالمئة من الأوراق بيد أمريكا.

العودة إلى الثوابت: فلسطين القضية المركزية للعرب

من هنا، يمكن فهم قمة جدة كـ”قول” عربي جديد، وإن كان هذا الفهم لا زال غائماً وملتبساً نظراً للتجارب العربية السابقة وغير المشجعة على انتظار نهايات مقبولة منه، لكن هناك ما يجب الاعتراف به الآن من مخرجات هذه “القمة” مثل القول إنّ القضايا العربية، ومنها القضية السورية، شأن عربي داخلي، فتلك عودة شجاعة عن زمن الخطيئة حين كانت “الجامعة” مجرد معبر “لا أخلاقي” تحتاجه الدول الغربية لتدويل القضايا العربية -سوريا وليبيا قبلها أفضل مثال على ذلك-، أما حذف الفقرات التي كانت من ثوابت القمم السابقة، وخاصة في المرحلة الأخيرة، والتي كانت تصف المقاومة بالإرهاب أو تلك التي تشير إلى خطر إيران على الأمن الإقليمي، فهي “قول” جديد عن مقاربة أخرى للقضايا والتحديات والتهديدات الإقليمية والعالمية، ربما كان أوضح ما فيها هو العودة إلى ثوابت قمة بيروت 2002 بشأن القضية الفلسطينية عبر التمسك بالحقوق الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال والعدوان، واعتبار المبادرة العربية للسلام إطاراً وحيداً لمقاربة حل القضية الفلسطينية.

إنّ القول بـ”مركزية القضية الفلسطينية” لا يعني أنّ جيوش العرب ستنطلق غداً لتحرير فلسطين، بل إنّ الطرف الآخر، وفيه بعض العرب ذاتهم، يستبدل أسلحته الصلبة بأخرى ناعمة، سياسية وإعلامية واقتصادية (مساعدات إنسانية وإعادة إعمار)

بالمحصلة، يمكن القول، ولو بحذر شديد، إنّها قمة عودة العقل أو التعقّل -ولو نسبيا- للسلوك العربي الجامع تجاه القضايا الراهنة والمزمنة، لكنّها بالتأكيد ليست إعلاناً باتاً بنهاية “داحس والغبراء” العربية بقدر ما هي إعلان للفشل الغربي في تسعيرها الآن ومحاولة “معقولة” لتبريد سخونتها في هذه المرحلة.

وكي لا ننسى.. فإنّ ذلك لم يكن ممكناً لولا دماء السوريين والفلسطينيين الذين صمدوا أمام الحروب التي شُنّت عليهم -وشارك بها بعض أقطاب القمة- فبالأمس أزهرت هذه الدماء، وإن نسبياً، في فقرات “إعلان جدة”، بيد أنّ التجارب السابقة تقول إنّ الحذر واجب، وإنّ المرحلة القادمة لن تكون سهلة أيضا، وإنّ الحروب لم تنته، وإنّ القول بـ”مركزية القضية الفلسطينية” لا يعني أنّ جيوش العرب ستنطلق غداً لتحرير فلسطين، بل إنّ الطرف الآخر، وفيه بعض العرب ذاتهم، يستبدل أسلحته الصلبة بأخرى ناعمة، سياسية وإعلامية واقتصادية (مساعدات إنسانية وإعادة إعمار)، لذلك وكما صمدنا في المرحلة السابقة علينا الآن، كفريق مقاوم، الاستعداد للرقص على إيقاع أساليب مواجهة جديدة في عالم جديد أيضا.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , ,