فلسطين كما رواها أهلها دون تصرُّف

التصنيفات : |
مايو 27, 2023 6:32 ص

*وسام عبد الله

عمل عدد من المؤسسات على توثيق الذاكرة الفلسطينية وخاصة الجزء المتعلق بالروايات والحكايات التي حملتها أجيال النكبة، داخل فلسطين وخارجها، لتشكّل مكملاً للوثائق والمعطيات التاريخية، وتكون صوتاً فلسطينياً صادراً من الناس دون غربلة، فكيف تؤثر الذاكرة الشفوية على الأجيال الفلسطينية الجديدة، وكيف يتلقّاها غير الفلسطيني ويتفاعل معها؟.

طرق التوثيق

طرق عديدة لسماع الذاكرة الشفوية والوصول إليها، منها الأبحاث التي تنفّذها المؤسسات المتخصصة بالأرشفة والتوثيق، فنستطيع عبرها التعرف على قصص مختلفة، يتمّ تنظيمها وترتيبها داخل موقع إلكتروني أو في المكتبات الخاصة بهم.

هل أمتلكُ القدرة على بناء شخصية سليمة في مخيّمات غير مناسبة للعيش وأُحرم من العمل بمختلف أنواع المهن؟

وطريق ثان، بالتعارف المباشر والشخصي مع أصحاب القصص، داخل المخيّمات والعمل والنشاطات، وحتى صدفة، دون ترتيب أي موعد. هذا الطريق يُبنى أحياناً على الرغبة بالتعرف على الآخر وهدم الأحكام المسبقة التي اكستبناها من البيئة المحيطة بنا، فتكوّن لدينا موقفاً نتيجة تلقّينا ذاكرة شفوية من الدائرة الإجتماعية القريبة مثل الأهل والمدرسة أو تأثير الضخ الإعلامي المستمر في التقارير الإخبارية والبرامج، هذا العبور وتجاوز ما اكتسبناه هو أحد أهم النتائج المرجوة من التعرف على قصص الآخرين، لأنّنا نسمعها بعواطفهم وتجربتهم، لتليَها القدرة على وضع أنفسنا مكان الشخص المتحدث، فلو كنتُ في حيفا واقتحم الاحتلال بيتي، كيف كنت سأتصرف وأحمي عائلتي، كيف سيكون سلوكي في نفس المعطيات المتوافرة لحظة النكبة، والأقسى، هل أمتلكُ القدرة على بناء شخصية سليمة في مخيّمات غير مناسبة للعيش وأُحرم من العمل بمختلف أنواع المهن؟.

لا نملك الحقيقة المطلقة

الذاكرة، تحمل أجوبة عن أسئلة: ماذا حدث، كيف ولماذا، لكن ليس بهدف الوصول إلى الحقيقة الكاملة، فكل شخص عاش في نفس المكان له تجربة مختلفة عن قريبه وجاره في ذات الحي، فلا نكون بانتظار نهاية القصة بهدف الوصول إلى نتيجة تشبه عملية البحث الأكاديمي في التاريخ الذي يُبنى على أساس سياسي، فيتمّ رفع الأحداث إلى الضوء وإخفاء أخرى لتحقيق سردية واحدة، أما في الذاكرة الشفوية فالقصة بين يدي صاحبها وحده، دون تأثير عليه.

الهدف هو الإصغاء لتجربة إنسانية، دون الحكم عليها، لفهم واحتواء بعضنا، كوننا في لحظات معينة لم نكن نملك إرادة مطلقة في اتخاذ قراراتنا في ظل ظروف قاسية عانينا منها

يصبح الموضوع شائكاً حين نظن أنّ الهدف من المرويات هو إلغاء المعطيات التاريخية، وهذا ليس بالأمر الدقيق. فالهدف هو الإصغاء لتجربة إنسانية، دون الحكم عليها، لفهم واحتواء بعضنا، كوننا في لحظات معينة لم نكن نملك إرادة مطلقة في اتخاذ قراراتنا في ظل ظروف قاسية عانينا منها.

الذاكرة للناس

تساهم الذاكرة الشفوية من خلال المرويات في تحرر الناس من تسلط قوى سياسية عليها من خلال دفعها لاتخاذ مواقف تتناسب مع مصالحها، فتتملك مناصيريها وتستخدمهم للتجييش في الصراعات، باستحضار أحداث تاريخية وإسقاطها على الحاضر. ولعل الحرب الأهلية اللبنانية، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على توقفها، إلا أنّ الأجيال التي لم تولد في الحرب، تحمل موروثاً سياسياً تلقّته من محيطها الإجتماعي.

إنّما هو عمل تراكمي لا يرتبط بمدة محددة، بل يحتاج إلى منظمات تصون القصص بأمانة، وتوفرها لكافة الراغبين بسماعها ومشاركتها

أهمية عمل المؤسسات الأكاديمية على تدريب الناس في كيفية إجراء حوارات مع الفئات المستهدفة لسماع قصصهم، وثم توثيقها لسهولة الوصول إليها والمحافظة عليها للمستقبل، إنّما هو عمل تراكمي لا يرتبط بمدة محددة، بل يحتاج إلى منظمات تصون القصص بأمانة، وتوفرها لكافة الراغبين بسماعها ومشاركتها، فالأصل في الذاكرة هو اكتساب مهارة الإصغاء وتقبّل الآخر ومحاولة التلاقي في نقاط مشتركة، فليس الهدف الإقناع أكثر ما هو تبادل التجارب.

الخط الأحمر

لن يترك الاحتلال الذاكرة الفلسطينية تنجو من جرائمه، وهو يسعى لتشويه الحقائق واختراع الروايات التي تناسب أطماعه، ولكنّ الخطر يكمن في أنّ الكيان يستغل كل فكرة وموضوع محاولاً التسلل عبره وتقديم نفسه ككيان طبيعي. والذاكرة الشفوية قد تكون أحد أهدافه.

والسيناريو الذي طُبّق في مختلف المجالات الإقتصادية والدينية في فكرة تقبّل “الحياة” مع المستوطنين، ينسحب على تبادل التجارب في القصص. شاب أو فتاة ممن ولدوا بعد عام 1948، أي لم يواكبوا احتلال أهلهم لفلسطين، فتكون الذريعة، أنّ الشاب لم يكن مسؤولاً عن ما حدث، وتجربته مبنية على قرارات عائلته، وبالتالي علينا تقبّل وجوده معنا. باب يدخل منه الاحتلال ليقول للفلسطينيين والعرب، فلنتقاسم معكم ذاكرتكم، بقصصنا المشتركة معا، ولنتجاوز الخلافات ونتقبّل بعضنا!.

هنا يكون الخط الفاصل بين الحقّ ووجهة النظر، فالاحتلال ليس اختلاف في وجهات النظر، أو سوء تفاهم، إنّما هو تدمير ممنهج للتاريخ وتشريد شعب بأكمله، فلا تكون الذاكرة الفلسطينية إلا فعل مقاوم لمنع الكيان من سرقتها وتوظيفها لمصلحته الخاصة.  

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , ,