جنين واليوم التالي: “العشب” عصيّ على الاقتلاع

التصنيفات : |
يوليو 7, 2023 6:54 ص

*أحمد حسن

لم يعد الكلام الحقيقي والمفيد يقتصر عما يحدث في جنين اليوم بقدر ما أصبح يدور حول اليوم الذي يلي العملية فيها، وربما كانت صحيفة الغارديان البريطانية هي من قدّمت التوصيف الأقرب للدقة حين قالت إنّه “بالنسبة لسكان جنين فإنّ الحياة اليومية قد تحولت إلى ساحة حرب”، لكنّها، وكعادة وسائل إعلام الغرب، سكتت عن نصف الحقيقة الباقي وهو أنّ الحياة اليومية كانت كذلك دائما، وأنّ “العشب” الذي حاولت “إسرائيل” جزّه لم ينبت بالأمس بل منذ تلك اللحظة التي أطلقنا عليها في وثائقنا اسم “النكبة”.

بهذا الفهم، أي دمج حقيقة “الغارديان” مع حقيقة الواقع، نقرأ كيف أنّ العدوان على جنين كان أمراً مخططاً مسبقا، ولكنّه أُجّل، لحسابات عدة، لما بعد عيد الأضحى، ولذلك أيضاً سيكون للفشل في “جزّ العشب” تبعات كبيرة قد لا تظهر كلها فورا، لكنّها ستنضم حكماً إلى كل تلك المعاول التي بدأت توسّع الثغرات في جسد الكيان و”حائطه” الشهير، ولذلك، أيضاً وأيضا، أصبح سؤال “اليوم التالي” هو الهمّ الأكبر الآن بالنسبة إلى العدو، وقيادته تحديدا، قبل الجميع، ولكن معهم أيضا.

ستعمل “إسرائيل” على توسيع دائرة العدوان لتحقيق انتصار ما، مفيد، سواء لنتنياهو ومستقبله السياسي والفريق اليميني الحاكم معه، أم لـ”إسرائيل” ذاتها التي تعاني من انقسام داخلي غير مسبوق وتحاول تصديره للخارج بكل الطرق الممكنة

وبالتأكيد، فإنّ “الجواب” الإسرائيلي هنا ستحكمه اعتبارات سياسية عدة، لكن ستحكمه أيضاً اعتبارات موضوعية وبنيوية، لأنّه متعلق بقضية وجود “إسرائيل” ذاتها، لذلك لن تستطيع “تل أبيب” الاعتراف بالفشل الكامل، ولن تستطيع أيضاً هضم خروج المخيّم نهائياً من تحت سيطرتها، والأدهى من ذلك تحولّه إلى عنوان آخر للصمود يُضاف إلى العناوين السابقة ما يعني تسارع كرة الثلج، وبالتالي ستحاول جاهدة عكس مسيرة هذه “الكرة” عبر توسيع دائرة العدوان لتحقيق انتصار ما، مفيد سواء لنتنياهو ومستقبله السياسي والفريق اليميني الحاكم معه والذي يعرف قبل غيره أنّ رقصة السيوف هي من تنتظره مع المعارضة في الداخل، أم لـ”إسرائيل” ذاتها التي تعاني من انقسام داخلي غير مسبوق وتحاول تصديره للخارج بكل الطرق الممكنة.

بيد أنّ سؤال اليوم التالي لا يشغل “إسرائيل” فقط، فهناك جهات عدة يجب عليها الإجابة عنه، وأولها السلطة الفلسطينية التي أصبح جسدها مثقلاً بالجراح سواء تلك التي أحدثها “الشريك الأوسلوي” الذي لم يترك خلال السنوات السابقة فرصة لتهميشها وإضعافها، أو من المنظمات الرافضة لـ”أوسلو”، أو، وهذا الأخطر والأهم، من الجيل الجديد الذي وعدته بـ”المنّ والسلوى” فلم يجد سوى المهانة، سواء من الفساد الداخلي المستشري مالياً وتنسيقياً مع المحتل، أو من العدو الإسرائيلي وجرائمه المباشرة، بالقتل الجسدي أو غير المباشرة، بالنفي المكاني عبر قصة الاستيطان المجرمة.

على فصائل المقاومة الانتقال من “وحدة الساحات” إلى “وحدة القرار” وأي خطوة جدية نحوه ستشكّل الفرق الحقيقي بين “انتصارات” متفرقة في معارك متنقلة، على أهمية ذلك البالغة، وبين “انتصار” كبير على طريق التحرير

بيد أنّ الأهم من ذلك كلّه هو الجواب الذي ستقدّمه المقاومة بمختلف فصائلها وتوجهاتها عن “اليوم التالي” فقد حان الوقت، بعد “وحدة الساحات”، إلى الانتقال نحو “وحدة القرار” وإن كان ذلك يبدو صعباً في هذه المرحلة نظراً لأمور عدة لا بدّ من تناولها بشفافية في وقت قريب، إلا أنّ أي خطوة جدية نحوه ستشكّل الفرق الحقيقي بين “انتصارات” متفرقة في معارك متنقلة، على أهمية ذلك البالغة، وبين “انتصار” كبير على طريق التحرير.

والحقّ فإنّ “اليوم التالي” وبغض النظر عن كل ما سبق سيحول جنين إلى قاعدة لوجستية، بالمعنى المادي والمعنوي، لكل مدن الضفة، التي ستحمل هذه الراية وتسلّمها لاحقاً لمدن أخرى، والحلم أن تصبح بأيدي عرب 1948، وبالتالي سيكون هناك مرحلة جديدة دون شك، وربما كان الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، تامير هايمَن، هو خير من عبّر عنها حين قال: “إنّ جنين ليست عاصمة للمقاومة، لأنّ المقاومة ليس لها عاصمة، بل هي في قلوب الفلسطينيين الذين يرفضون وجود إسرائيل”.

ذلك هو جوهر “اليوم التالي” وتلك هي ثمرة محاولة “جزّ عشب” جنين القاسي، بيد أنّ هذه الثمرة لا يجب أن تعمينا عن ضرورة عدم تجاهل حقيقة كبرى في الصراع مع العدو، مطلق عدو، ومفادها ضرورة الابتعاد عن “التهوين” و”التهويل” فكلاهما قاتل، وقد كانت مسيرتنا مليئة بضحاياهما، والتاريخ خير معلّم.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,