الكيان ومأزقه: “حدود القوة” و”عدم المعقولية”

التصنيفات : |
يوليو 27, 2023 6:23 ص

*أحمد حسن

بإيجاز شديد، يبدو أنّ الأمر في الكيان الصهيوني أبعد وأخطر من قانون “إلغاء ذريعة عدم المعقولية” الذي جعل “الأسود” لوناً لصحف “تل أبيب” أمس، وبالتالي لا يصبح وصفه بـ”الأبوكاليبس الذي سيقود إسرائيل إلى الهاوية”، إلا تعمية على الأسباب الحقيقية للأزمة لأنّه، في جوهره، عرض ونتيجة وليس سببا.

بهذا الفهم يمكن أن نقرأ مغزى مطالبة معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة “تل أبيب” -في دراسة حديثة له- الإسرائيليين، وقادتهم تحديدا، بإدراك “حدود القوة” والعمل وفق مقتضاها.

الرئيس الأمريكي جو بايدن استخدم، في حديثه الهاتفي الأخير مع نتنياهو، تعابير أخرى للوصول إلى الهدف ذاته حين كرّر مطالبته “إسرائيل” باتّخاذ “خطوات من شأنها الحفاظ على خيار حلّ الدولتين وضمان الاستقرار الأمني في المنطقة”، وبالطبع لم تكن إضافة السلطة الفلسطينية كطرف مقابل في “المطالبة” إلا لزوم ما لا يلزم لمعرفة الأمريكيين العميقة بـ”حدود” قوّتها ومقدرتها على تحقيق أي من البندين السابقين.

إنّ “المطالبة”، سواء من “المعهد” أم من “بايدن”، ليست بريئة وليست انحيازاً مستجداً للسلام أو صحوة متأخرة للضمير بقدر ما هي اعتراف واقعي بتجذّر أزمة الكيان وارتقائها إلى مستوى الأزمة الوجودية التي تبدو مستعصية على الحل

والحال، فإنّ “المطالبة”، سواء من “المعهد” أم من “بايدن”، ليست بريئة وليست انحيازاً مستجداً للسلام أو صحوة متأخرة للضمير بقدر ما هي اعتراف واقعي بتجذّر أزمة الكيان وارتقائها إلى مستوى الأزمة الوجودية التي تبدو مستعصية على الحل، بل ودخلت، على ما يبدو، في طريق اللاعودة في مسار الانقسام الداخلي، وذلك ما يشي به تجذّر الاحتجاجات الداخلية بين فريقين اجتماعيين متناقضين جذرياً و”انتقالها إلى الجيش وسلاح الطيران خصوصا، الذي أعلن أكثر من ألف من الطيارين والتقنيين فيه رفضهم الانضمام إلى الخدمة”، معطوفة على الفشل المتلاحق، خارجيا، في المواجهات مع قوى المقاومة، وما يزيد الطين بلة هنا أنّ هذا الفشل الخارجي هو، بسبب طبيعة وبنية الكيان، داخلي بالمطلق.

بيد أنّ ما يغفل عنه الطرفان هو أنّ أزمة الكيان وبالتالي ضرورة التزامه “حدود القوة” لا تعود إلى ما سبق فقط بقدر ما تعود إلى طبيعته كعضو فعلي -وفاعل بصورة ما- في نظام الهيمنة الغربية على العالم والذي يمر الآن في مرحلة تراجع أمام قوى عالمية أخرى، وربما كانت مجريات قمة بروكسل بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، والتي عُقدت في الـ17 والـ18 من الشهر الحالي، أحدث تلك المؤشرات إلى ذلك التراجع حيث لم تستطع الدول الغربية فرض إرادتها على نظيراتها “الجنوبية” بإدانة “العدوان الروسي” على أوكرانيا، واكتفائها فقط ببيان ختامي يُبدي “القلق العميق إزاء الحرب في أوكرانيا” من دون ذكر روسيا بالإسم.

على أهمية الخلاف مع واشنطن في إضعاف “إسرائيل”، إلا أنّه خلاف على كيفية الحفاظ على الكيان فقط لا غير لأنّ هذا الأخير، “مشروع غربي” أبعد من قصة “المجال التكنولوجي أو القوة الأمنية”

بهذا المعنى لن يستقيم الوضع بالتراجع عن قانون “إلغاء ذريعة عدم المعقولية” لأنّه نتيجة وليس سببا، كما لا يستقيم الأمر بإحالة “المعهد” جزء من تضيّق حدود القوة الإسرائيلية إلى الخلاف مع الولايات المتحدة لأنّها “دولة عظمى تعمل بموجب مصالحها الخاصة فقط. وأهمية إسرائيل بالنسبة إليها تكمن في مجالين أساسيين، هما: المجال التكنولوجي والقوة الأمنية“، وبالتالي، إذا “ابتعدت إسرائيل عن القيم الديموقراطية الأمريكية”، فإنّ تعزيزها في مجالَي التكنولوجيا والأمن “من شأنه أن يصبح مناقضاً للمصلحة الأمريكية”، فهذا التحليل خاطئ جزئيا، بل مضلل أيضا، فعلى أهمية الخلاف مع واشنطن في إضعاف “إسرائيل”، إلا أنّه خلاف على كيفية الحفاظ على الكيان فقط لا غير لأنّ هذا الأخير، كما أسلفنا، “مشروع غربي” أبعد من قصة “المجال التكنولوجي أو القوة الأمنية”، إنّه في صلب صعود الغرب وسيطرته على العالم وعلى الشرق الأوسط ضمنا.

أنّه كلام مخاتل يُراد لنا، في المنطقة، أن نصدّقه كي ننتظر التغيير في السياسة الأمريكية ضد “إسرائيل” وننبذ المقاومة، متجاهلين أنّ هذا “التغيّر الديمقراطي” له أسبابه الداخلية حقاً لكنّ “المقاومة” العالمية لواشنطن وإدراك هذه الأخيرة “حدود القوة” أيضاً هو السبب الأهم له

هنا يصبح ذكر المؤشرات السلبية لـ”تغيّر وجه المجتمع الأمريكي وسياسته الداخلية” تحصيل حاصل، فالكلام عن استطلاعات الرأي التي تُبرز أنّ “الناخبين الديموقراطيين باتوا أكثر تأييداً للفلسطينيين وأقلّ تأييداً لإسرائيل”، والاستناد إلى تصريحات بعض الفاعلين السياسيين الأمريكيين مثل عضوة مجلس النواب الأمريكي، براميلا جايبال، قبل أيام، والتي قالت إنّ “إسرائيل دولة عنصرية”، يبدو، ومرة أخرى، صحيح نسبياً لكنّه غير منتج عمليا -جايبال تراجعت عن تصريحها تحت الضغط- ما يعني، بالمحصلة، أنّه كلام مخاتل يُراد لنا، في المنطقة، أن نصدّقه كي ننتظر التغيير في السياسة الأمريكية ضد “إسرائيل” وننبذ المقاومة، متجاهلين أنّ هذا “التغيّر الديمقراطي” له أسبابه الداخلية حقاً لكنّ “المقاومة” العالمية لواشنطن وإدراك هذه الأخيرة “حدود القوة” أيضاً هو السبب الأهم له.

لذلك، حين تختم “الدراسة” توصياتها بدعوة “إسرائيل” إلى الاعتراف بحدود القوة، وضرورة التنسيق مع الولايات المتحدة عند اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية ضد أعدائها، فإنّها تتجاهل “حدود القوة” الأمريكية أيضاً في عالم بدأت دوله وقواه الفاعلة، والمظلومة، تكسر، ببطء لكن بثبات، قيود حدود قوتها التي فُرضت عليها خلال المرحلة الماضية.. والأيام حبلى.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,