الأزمة الداخلية في “إسرائيل” تبدد حلم “جيش الشعب”
يوليو 28, 2023 6:40 ص*أحمد الطناني – غزة:
ساعات صعبة وحرجة يشهدها كيان الاحتلال، حيث يحتشد في شوارعه مئات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين الذين أدى إقرار تعديلات قانون “المعقولية” إلى إيصال الأوضاع إلى ذروتها في الشارع وبين المعارضة والائتلاف الحكومي.
جزء من الجماهير المحتشدة في الشوارع هم رافضو مشروع “التعديلات القضائية” أو “الانقلاب القضائي” كما يسميه معارضوه، وجزء آخر مؤيد، ويعتبرها “إصلاحات قضائية” مهمة وجوهرية لإعادة تقويم النظامي القضائي لدى كيان الاحتلال وتحديد صلاحيات التدخل والتداخل بين السلطات.
للأزمة جوانب كثيرة ستترك أثرها بلا شك على مستقبل “إسرائيل” وتماسك بُناها ووحدة صفوفها، خصوصاً مع وصول الانقسام بين اليمينيين، والعلمانيين من يسار ويسار الوسط، وحتى قادة معسكر الوسط في كيان العدو إلى أعلى درجاته منذ تأسيس هذا الكيان على أنقاض وعذابات الشعب الفلسطيني.
حلم “بن غوريون” يتبدد
“جيش الاحتلال” أو كما تبلور في فترة حكم الزعيم الأول للكيان الصهيوني “ديفيد بن غوريون”، أنّه يجب على “جيش الشعب”، أن يكون المؤسسة الأكثر تحصيناً ومناعة في “إسرائيل” بات تماسكها في مهب الريح وعرضة لأول مرة في تاريخها للتأثر بقدراتها العملياتية نتيجة التأثر بخلاف داخلي، في لحظة أمنية حرجة للاحتلال في كل محاور السخونة، وتشهد الساحة تعاظماً في التحديات الأمنية والتهديدات، سواء من تصاعد المقاومة في الضفة، أو إشارات التصعيد مع حزب الله على الحدود الشمالية، والاستنفار الدائم على الحدود مع قطاع غزة، والتطور المتسارع في البرنامج النووي الإيراني والقدرات التسليحية في الجمهورية الإسلامية.
رئيس الأركان في جيش الاحتلال “هرتسي هاليفي” وصف الأيام الأخيرة التي اشتدت فيها حدة الخلافات على خلفية إقرار قانون “المعقولية” بأنّها أيام “صعبة للغاية” بالنسبة لقيادة الجيش، التي نقلت تركيزها من التعامل مع العمليات والتدريبات، إلى التركيز الرئيسي وشبه الحصري على عواقب خطة التعديلات القضائية على الجيش، وقد كان ملحوظاً مدى القلق البادي على رئيس الأركان، والخوف الواضح من تحول علامات الاستفهام المزعجة إلى علامات تعجب خطيرة، معتبراً أنّ “الخطاب العام خطير ويقسم الجيش”.
الخطاب العام المقصود، هو الذي يدور بمشاركة شخصيات عامة بارزة وإعلاميين في معسكريْ الخلاف، ويمس بدرجة مباشرة تماسك الوحدات المختلفة وقد ينعكس على قدرة الجيش على القتال، وبشكل خاص الانتقادات والحملة الإعلامية التي استهدفت الطيارين، وتحديداً الفيديو الذي تمّ نشره، والذي يظهر فيه طيارون يربطون مساعدتهم للقوات البرية التي تطلب إسناداً جوياً بموقفهم من مسألة التعديلات القضائية، وقد أحدث الفيديو حالة واسعة من الجدل في الأوساط الجماهيرية والسياسية، خاصة بعد أن شاركه عدد من وزراء حكومة الاحتلال ضمن حملة مهاجمة الطيارين الرافضين للخدمة.
تفكك “قوات الاحتياط”
تحت عنوان “الخطر من تفكك قوات الاحتياط”، كتب جنرال الاحتياط “تامير هيمان” في صحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية مقالاً استعرض فيه نموذج “قوات الاحتياط” التي كانت تُعتبر أمراً مسلماً به لم يكن يلوح به أي خطر، موضحاً أنّه عندما يختفي سيكشف العيوب والهشاشة الكامنة في تركيبة الجيش.
يؤكد هيمان أنّ تفكيك نموذج “قوات الاحتياط” سيكون أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لأمن “إسرائيل”، معتبراً أنّ التفكيك قد بدأ بالفعل، حيث لم تنجح محاولات إبقاء “الجيش” خارج الخطاب السياسي، مضيفاً أنّ روح التطوع في “الجيش الإسرائيلي” تمر بخطر وجودي، وبدونها الجيش بصورته المعتادة سيتفكك وينهار، وكل ما سيتبقى منه هو جيش عادي، خالٍ من الأشياء المميزة الفريدة والتي هي جزء من “الثقافة الإسرائيلية”.
من الناحية العملية، يعتبر الجنرال أنّ الجيش بدون نظام “الاحتياط”، الذي يعتمد بالكامل تقريباً على التطوع، فإنّه ليس سوى جيش صغير يتمتع بقدرات محدودة أقل بكثير من تلك الموجودة اليوم.
معهد أبحاث الأمن القومي يشخّص تأثير الأزمة السياسية الاجتماعية بشكل مباشر على كفاءة نظام خدمة الاحتياط، وكذلك على مستقبله والقدرة على الحفاظ على نموذجه وهيكله الحاليين وأنّ إنهاء العديد من الضباط والجنود، وخاصة في وحدات النخبة تطوعهم للخدمة، يقوّض شرعية التجنيد في الاحتياط، فيشعر الذين توقفوا عن التطوع أنّ العقد المبرم بينهم وبين كيان الاحتلال قد انتُهك، وأنّهم مهددون من قِبل محكمة لاهاي.
ويعتبر تقرير المعهد بأنّ الخطر الأكبر في العمليات طويلة المدى التي تؤدي إلى تهديد وجود نظام الخدمة بشكل عام وما تبقى من نموذج جيش الشعب، حيث يعتمد نظام خدمة الاحتياط على التطوع والتماسك والكفاءة العملياتية وروح التطوع وتماسك الوحدات، هذه الأمور سيكون من الصعب جداً تصحيحها، ما قد يؤدي إلى تراجع أداء “الجيش” أثناء القتال.
يرى معهد أبحاث الأمن القومي أنّ إجراءات التشريع الحالي أدت بالفعل إلى جعل الآلاف من جنود الاحتياط جاهزين للإعلان عن وقف التطوع للخدمة، وهو ما يلحق ضرراً شديداً بنظام خدمة الاحتياط، وضرراً جسيماً بالتجنيد في الخدمة العسكرية والبقاء في الجيش.
ويضيف التقرير، بأنّ ما يحدث من المتوقع أن يؤدي على المدى القريب، إلى إلحاق الضرر بكفاءة الأنظمة والوحدات الأساسية في سلاح الجو والاستخبارات والعمليات الخاصة ووحدات النخبة.
تآكل “الردع” يتزايد
جنرال الاحتياط “هيمان”، والذي شغل سابقاً منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية “أمان”، في تشخيصه لارتدادات الأزمة التي تعصف بالكيان وتأثر الجيش بها على ما يُسمى بمعادلة “الردع”، يعتبر أنّ الاستمرار في هذا الاتجاه الخطير يساهم في تآكل معادلة “الردع” الإقليمية، مضيفاً أنّ “الردع” كقاعدة عامة ليس مفهوماً قابلاً للقياس، ولكنّه عنصر متعلق بعلم النفس ولا يمكن قياسه إلا عندما يفشل.
بحسب “هيمان” يعتمد جزء أساسي من “الردع” على الرواية والصورة وليس على الحقائق، معتبراً أنّ الخطر يكمن في أنّه بمرور الوقت، قد تقنع الصورة والرؤية خصوم الاحتلال بأنّ قواته العامة قد تضاءلت، وهناك أماكن يؤدي فيها تغيير طفيف في ميزان الردع إلى عواقب وخيمة.
يتناول “هيمان” الجبهة الشمالية أمام حزب الله، حيث يرى أنّ نصر الله يعاني بالفعل من شعور بالثقة بالنفس نتيجة تصاعد الأزمات التي تعصف بالجيش وكيان الاحتلال، إضافة إلى الساحة الأخرى التي سيؤثر فيها أي تغيير طفيف على ميزان الردع وهي إيران، إيران نفسها التي ما زالت غير مقتنعة بالتهديد العسكري الموثوق ضدها.
في السياق ذاته يذكر تقرير معهد أبحاث الأمن القومي أنّ التهديد الذي تمثّله إيران هو الأكبر، والتوترات في الشمال كثيرة، وحزب الله يتحدى “إسرائيل” بل ويستفزها أو يتحرش بها، وفي الضفة الغربية تكررت الهجمات من جهة والعمليات العسكرية من جهة أخرى، “الجيش الإسرائيلي” عملياتياً منتشر إلى أقصى حد، ما يؤدي إلى إلحاق الضرر بتدريب الوحدات البرية وبالتالي بكفاءتها.
يقدّر باحثو الاحتلال الخطر المتزايد من الإشارات حول ضعف الجيش وتشتته واستنزافه، ويرون أنّ التوقيت الذي يتصاعد فيه خطر المواجهة متعددة الجبهات، فإنّ الإشارات الواردة من صفوف الجيش تعطي خصوم الاحتلال (قوى المقاومة في المنطقة) شعوراً متصاعداً بالثقة وتحفّزهم لخطوات جديدة بسبب تشخيص حجم الضعف الذي يعصف بالكيان الصهيوني، والذي لا يبدو أنّه يُمكن أن يُعالج على المدى القريب.
كسر لن يُجبر
“نتنياهو” الذي مضى في إقرار التعديل المثير للجدل حول “المعقولية” ضمن رزمة مشروع ائتلافه الحكومي للتشريعات القضائية، حاول قدر الإمكان خلق فاصل ما بين الخلاف مع المعارضة وقوات الجيش.
في كلمته بعد انتهاء جلسة “الكنسيت” المثيرة، طالب رئيس وزراء الاحتلال بأن يبقى “الجيش” خارج أي نزاع سياسي، مؤكداً أهمية جنود الاحتياط، معتبراً الدعوة لرفض الخدمة تضر بأمن جميع مستوطني كيان الاحتلال، مضيفا: “ولا يمكن لأي حكومة أن تستسلم لإملاءات الرفض، ولن نستسلم لمثل هذه الإملاءات”.
خطاب “نتنياهو” يعكس استشعاره حجم الأزمة، إلا أنّه يعكس إصراراً أيضاً على المضي قدماً بمشروع التعديلات القضائية الذي خلق الأزمة من حيث المبدأ، في ما تؤكد كل المؤشرات، أنّ حجم الضرر الذي مس بتماسك جيش الاحتلال وتشكيلاته المختلفة، وبشكل خاص قوات الاحتياط، هو ضرر سيستمر طويلا، ويدشن لمرحلة جديدة لا تكون فيه مؤسسة الجيش محصّنة من التدخلات أو الاستثمار السياسي، وما يحصل من توسع شرائح رفض الخدمة هو تدشين لمرحلة جديدة في دورة حياة جيش الاحتلال، ويضع الحكومة الحالية والحكومات القادمة وكذلك قيادة الأركان أمام تحديات كبيرة مرتبطة بهيكلية وطبيعة الاعتماد الكبيرة على جنود الاحتياط في العديد من التخصصات الحيوية.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
أحمد الطناني, إعلام العدو, الإصلاحات القضائية, الاحتلال الإسرائيلي, البرنامج النووي الإيراني, الجبهة الشمالية, الردع الإسرائيلي, العمليات العسكرية, الكيان الصهيوني, جنود الاحتياط, جيش الاحتلال, جيش الشعب, صمود, فلسطين المحتلة, محكمة لاهاي, معهد الأمن القومي, مقاومة, نظام الاحتياط