“أوسلو”: فلسطين بثلاثين من “السلطة”
سبتمبر 13, 2023 6:48 ص*أحمد حسن
في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، كان مشهد الاحتفال الرسمي في حديقة البيت الأبيض أبلغ رسالة وأعمق دلالة من مجرد كونه احتفالية “معتادة” بتوقيع اتفاقية “سلام” بين عدوين، ففي حضرة رئيس الولايات المتحدة، بيل كلينتون، وبابتسامة عريضة مدّ “ياسر عرفات” يده نحو “إسحق رابين” الذي تلكأ بصورة واضحة للغاية قبل أن يمدّ أطراف أصابعه، “في ما لم يفتر ثغره إلا عما يشبه الابتسامة البَرِمَة” كما وصفها كاتب عربي.
وبغض النظر عن اعتقاد “عرفات” حينها أنّه انتصر نظراً للظروف الدولية والإقليمية المعقدة التي كانت تواجه منظمة التحرير الفلسطينية حينها، إلا أنّ ابتسامته وتجهّم رابين كانا، مع تصفيق كلينتون وابتسامته، تعبيراً عن جملة حقائق ثابتة، وإرهاصاً مبكراً بما سيحصل -وقد حصل- لاحقا.
الحقائق الأربعة لاتفاق أوسلو
والحال، فإنّ أولى هذه الحقائق تتمثّل بترسّخ قناعة الموقّعين عليه من الجانب الإسرائيلي، والراعي الأمريكي، بأنّ الصراع مع الفلسطينيين مجرد نزاع حدودي آخر، يمكن حلّه بتنازل عن أمتار هنا ومنح “علم” هناك، وبالتالي، وتلك الحقيقة الثانية المرتبطة موضوعياً بالأولى، فإنّ أكثر ما يمكن لواشنطن أن تقدّمه للفلسطينيين سابقاً ولاحقاً هو “اتفاقية أوسلو” بعجرها وبجرها ولا شيء آخر.
في ما تمثّلت الحقيقة الثالثة، وهي الأخطر والأفدح ضررا، في أنّ الفلسطينيين قدّموا في “أوسلو” اعترافاً تاماً بـ”إسرائيل” وحقّها في الوجود والأمن والسلام، وفرّطوا بحقّ العودة، مقابل وهم دولة ثبُت لاحقاً بأنّها أقل حتى من سلطة مستقلة، وكان من نتيجة “وهم الدولة” هذا أن نشأت، أو أُنشئت، وتلك هي الحقيقة الرابعة، طبقة فلسطينية تابعة ومرتبطة اقتصادياً وسياسيا، وبالتالي وجوديا، بصورة ذيلية مع المحتل الإسرائيلي والراعي الأمريكي و”المموّل” العربي، وذلك ما يفسّر لاحقاً إصرارها على “المفاوضات.. المفاوضات.. المفاوضات”، كأسلوب وحيد مع العدو، كما قال محمود عباس مرة، و”مقاومتها” الحادة والشرسة، في الآن ذاته، للمقاومة الفلسطينية ضد العدو باعتبار هذه الأخيرة مسّاً مباشراً بمصالحها الاقتصادية والسياسية، المخالفة حكماً لمصالح الشعب الفلسطيني الحقيقية.
أما “تجهّم” رابين فقد كان إشارة أولى إلى إنّ “إسرائيل” لا تنوي أبداً الالتزام حتى بهذا الحد الأدنى من التنازل، وقد كان شرط تصديق الكنيست على “أوسلو” تعهُّد رابين أمام النواب الصهاينة بأنّه “لن يعطي الفلسطينيين دولة، بل كياناً إدارياً بغرض التخلّص من الأماكن ذات الكثافة السكانية الفلسطينية”، في ما أثبتت الوقائع اللاحقة أنّ همّ قادة الكيان كان إفراغ هذا الاتفاق من أي مضمون وهذا ما كشفه مثلاً شريط فيديو يعود إلى عام 2001 يقول “بنيامين نتنياهو” فيه إنّه عمل منذ ما قبل انتخابه لرئاسة الوزراء على قتل اتفاقيات أوسلو.
وبالطبع، فإنّ “فلسطينيي أوسلو” لم يعدموا المبررات البلاغية لما اقترفته أيديهم، وعلى سبيل المثال فإنّ “ياسر عرفات” قال في أحد خطاباته بعد عودته إلى غزة، إنّ “اتفاق أوسلو مرحلة ليعود ويقاوم من أرض الوطن، مع عدم تسليم قراره السياسي لأي جهة عربية أو إقليمية، بدوره رأى “أحمد قريع” أنّ اتفاقية أوسلو بمثابة محصّلة موضوعية لميزان قوى، ذاتية، إقليمية ودولية، تقدَّم الفلسطينيون عبره عتبة التاريخ إلى حيّز الجغرافيا.
نتائج “أوسلو”: النزاع وجودي لا حدودي
وإذا كان هذا الكلام صحيحاً من جهة معينة، فهو مثلاً مكّن الفلسطينيين من إقامة كيان سياسي لأول مرة على أرض فلسطينية، لكنّه كلام مخاتل من بقية الجهات لأنّه يحاول التعمية على أمرين اثنين: الأول، أنّ “أوسلو” بفكرته الأصلية، “الساداتية” المنشأ -أي نظرية 99% من الأوراق بيد الأمريكي- رهنَ القرار الفلسطيني، الرسمي، بصورة نهائية للرعاة العرب والأمريكان وللطرف الإسرائيلي، والثاني، أنّ عبور عتبة التاريخ لا يتمّ عبر “حيّز” من الجغرافيا لا تملك حتى السلطة الكاملة عليه، والدليل حصار عرفات في “المقاطعة” حتى الموت، لأنّ جذر المشكلة هو الجغرافيا كلها لا حيّز ما منها مهما بلغت مساحته.
بكلمة أخرى، هذا نزاع وجودي لا حدودي وتجاهل طرف لهذه الحقيقة وتفريطه بها لا يعني تجاهل الآخر لها، بل يعني وبكل بساطة إضاعة البوصلة وإطالة أمد النزاع، لذلك نشهد الآن، وبعد نحو ثلاثين عاماً على “أوسلو”، أنّ الفلسطينيين لم يستطيعوا “تقييم التجربة واجتراح الحلول أو وضع استراتيجية لما بعد الاتفاقية وفشل مسار المفاوضات”.
والحال، فإنّ “أوسلو” كان تتويجاً لجهود العدو ورعاته على امتداد عقود سابقة لاحتواء الحركة الوطنية الفلسطينية، وما عشناه خلال المرحلة الماضية كان النتاج الطبيعي لـ”حقبة أوسلو”، حيث لا يوجد فعلياً سوى علم ومقرّ ومراسم رئاسية، والأخطر من ذلك، قوات أمن (وبالأمس زودتها واشنطن ذاتها بناقلات مدرّعة وأسلحة) مهمتها الوحيدة حماية “طبقة أوسلو” ومصالحها عبر حماية العدو ذاته عن طريق ترسيخ فكرة وممارسة التنسيق الأمني معه ضد المقاومة الشعبية الطبيعية والمشروعة لأي شعب يقبع تحت الاحتلال، بيد أنّ الحال في تغيّر وتبدّل، وما نعيشه اليوم وفق كل المؤشرات والدلائل هو نهاية “الحقبة” لكنّ وصول ذلك إلى نهاياته المنطقية يستلزم، على ما يبدو من واقع الحال، إنهاء “طبقة أوسلو”، وهو ما يحتاج، إلى جانب وسائل أخرى، اتفاق فصائل المقاومة على برنامج وطني حقيقي وجامع وتلك خطوة أولى في مسار طويل، وإلا..
*كاتب سوري
وسوم :
اتفاق أوسلو, السلطة الفلسطينية, العدو الإسرائيلي, دولة الوهم, دولة فلسطينية