بين حديث السياسة و”فقه” الميدان
نوفمبر 16, 2023 7:34 ص*أحمد حسن
في السياسة يمكن الحديث عما يشبه “الثورة” لتوصيف ما يحدث من اعتراض أبداه بعض الدبلوماسيّين الأمريكيين والفرنسيين على سياسات كل من إدارة بايدن وإدارة ماكرون، فكلاهما، أي الثورتين، تحذّران الإدارة المعنيّة من مغبّة انحيازها الكامل والسافر إلى الجانب الإسرائيلي في معركة غزة، وتلك إشارة جديّة وفارقة في نظرة “عقلاء” الصف السياسي الرسمي في البلدين إلى الصراع وتشعباته من جانبه المصلحي لبلادهما، كما يرونها من وجهة نظرهم الخاصة.
بيد أنّ هذا الأمر، على أهميته، لا يمكن البناء عليه، وقد شهدنا “عقم” هاتين الثورتين في التراجع السريع لماكرون عن فحوى انتقاده “اللطيف” لبعض ممارسات “إسرائيل”، كما في التراجع السريع لبايدن عن رفضه “اللطيف” أيضاً لجريمة قصف المستشفيات واقتحامها وانتقاله السريع أيضاً إلى قبولها وتبريرها.
ذلك ما يؤكد أنّ المسألة هي الآن، وكما كانت سابقاً ودائما، في الميدان و”فقه” حديثه لا بمذكرات الدبلوماسيين الغاضبة والمحذّرة، وهنا نفهم مغزى وعمق جدية السيد حسن نصر الله حين استخدم التعبير ذاته في خطابه الأخير، وهنا أيضاً نفهم مدى قوة المقاومة الفلسطينية من استمرار “حديثها الميداني” رغم وصول العدو، الإسرائيلي والأمريكي، إلى مشفى الشفاء.
بهذا المعنى يكتسب “حديث الميدان” أهميته القصوى، لأنّه سيحدّد لاحقا، وكما في كل مرة سابقة، مدى، وعمق، حديث السياسة بعد الحرب، وهو “حديث” يحاول جاهداً استعادة قصة “خذلان السياسة للسلاح” التي حصلت في حرب 1973، فما تسرّب منه حتى الآن هو طموح “إسرائيل” إلى إعادة قطاع غزة تحت إدارتها المباشرة بعد الحرب، مقابل طرح واشنطن، عبر وزير خارجيتها، رؤيتها القائلة بإخضاع القطاع لـ “سلطة فلسطينية فعّالة، ومعاد تأهيلها”، بحسب نص كلامه، وفي الطرحين اللذين يعلنان معاً استبعاد “حماس المقاومة” من المشهد التالي كلياً تلوح رائحتان واضحتان، أولهما، عدم الرضا عن السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي وضرورة استبدالها بأخرى تحقّق ما عجزت عنه الحالية، وثانيهما رائحة استعادة حلم “قناة بن غوريون” كبديل غربي عن قناة السويس ضمن مشروع طريق اقتصادي منافس لطريق الحرير الصيني، وما يحمله هذا من ضربة كبرى جديدة لمصر واقتصادها وأمنها الداخلي والقومي ودورها الإقليمي والعالمي ويبعدها، بالتالي، خطوة جديدة عن فلسطين وقضيتها بعد خطوة، وخطيئة، “كامب ديفيد” السابقة.
والحال، فإنّ ذلك هو “بعض” المضمون الخفي لمفردات حديث “السياسة” في مفاوضات الهدنة الحالية -بعضه الآخر يتعلق بترتيب إقليمي مختلف- لكنّ الجميع يعلم جيداً أنّ الكلام النهائي الفاصل في هذا للميدان لا لسواه، وما سيسفر عنه هو ما سيحدّد المحطة التي سيقف فيها قطار السياسة المندفع، لكنّ الجميع يعلم أيضاً أنّها، على ما تقول دروس التاريخ القريب قبل البعيد، محطة مؤقتة لسبب هام جداً مفاده أنّ كل ما يُطرح الآن يحاول تجاهل، أو للدقة تغييب، أسّ الصراع الحقيقي وهو فلسطين بكل ذرة من ترابها لا غزة فقط، خاصة وأنّ الميدان اليوم هو من أعاد إخراج هذا “الأس” إلى العلن، وإذا كان بعض أهل القضية والضحية لم يروا ذلك جيدا، لأسباب عدة -منها ما هو مصلحيّ ضيّق للأسف الشديد- فهو ليس غائباً عن العدو، بقيادته الأمريكية وذراعه الإسرائيلية، لذلك نشهد هذا التوحّش سواء في الفعل أم في التغطية السياسية ودعوة “ميشال سالزمان” المشرِّعة الجمهورية عن ولاية فلوريدا الأمريكية إلى موت جميع الفلسطينيين، هي فهم حقيقي، ولو كان متوحّشا، لأسّ الصراع.
خلاصة القول، لاحقا، وليس في زمن بعيد، سنقرأ كيف أنّ “فقه ميدان” حرب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر هو الذي طرح جدياً مستقبل الكيان الصهيوني على الطاولة وأنّه، وبأي صورة انتهت إليها هذه الحرب، هو الذي أوضح ولمرة أخيرة وهم “الجدران” والقبب الفولاذية والجيش الذي لا يُقهر وإمكانية شراء الحقّ الساطع بسلطة هنا ورشوة مالية هناك، وبالتالي، هو السطر الأهم في كتاب عصر ما بعد “إسرائيل”، وتلك هي ميزة هذا “الفقه” الذي استنبطه أهل غزة بدمائهم وكتبوا مفرداته بفلذات أكبادهم سطوراً من الإيمان ببلد ينجب كل يوم فوجاً جديداً من المقاومين.. حتى النصر.
*كاتب سوري
وسوم :
أحمد حسن, القضية الفلسطينية, حرب 7 أكتوبر, صمود, طوفان الأقصى, قناة بن غوريون