خريف “نتنياهو” الذي اقترب

التصنيفات : |
نوفمبر 17, 2023 7:56 ص

*موسى جرادات

بدون شك، فإنّ المرحلة الطويلة التي تولّى فيها “بنيامين نتنياهو” سدة الحكم في كيان الاحتلال، ساهمت إلى حد بعيد في تثبيت جملة من القواعد السياسية، التي تحوّلت في ما بعد لتكون حقائق ثابتة وبديهيات لدى الجمهور الصهيوني، وعليه، فإنّ المسار العام الذي حكم الذهنية الصهيونية طوال تلك الفترة، أدى إلى إخراج كل المخبوء التي نظرت له الحركة الصهيونية منذ بداية نشاتها.

فعلى الصعيد الداخلي، تمكن اليمين واليمين الديني من فرض أيديولوجيتهم الخاصة لشكل كيان الاحتلال وشكل الحكم فيه، وكان العرّاب “نتنياهو” هو الوحيد القادر على إدارة الدفة  عبر الجمع بين العلمانيين والمتدينين، غربيين وشرقيين، على قاعدة أنّ الحركة الصهيونية قادرة اليوم على تنفيذ كامل أجندتها، سواء داخل المجتمع الصهيوني، أو في ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، وهذا المسار بدا واضحاً وجليا، عبر تكثيف الاستيطان، والاقتراب من المسجد الأقصى، لدرجة أصبحت إمكانية تحويله إلى معبد ديني يهودي، قاب قوسين أو أدنى.

لقد تفاخر “نتنياهو” قبل أشهر، عبر تصريحات متواترة، بأنّه تمكن من فرض رؤيته على الأرض، وأنّه استطاع تحقيق ما لم يستطع تحقيقه كل قادة هذا الكيان مجتمعين.

اللحظة الفلسطينية الفارقة

هذا التفاخر جعل من “نتنياهو” أسير أوهامه التي حملها، دون النظر لمجريات حركة التاريخ، التي تقول بوجود حيوات أخرى على نفس المجال الجغرافي، حيوات قادرة على إحداث تجويفات كبرى في عقل النظام السياسي الصهيوني الذي ما انفك يحتفل باكتمال بدر المشروع الصهيوني، فدولة الرفاهية حاضرة، والقوى العسكرية الصهيونية تُمسك بزمام المبادرة على الأرض، والمحيط العربي يزحف مهرولاً نحو التطبيع الكامل وفق كل الشروط الإسرائيلية.

وبينما يجري كل هذا، كانت غزة بمقاومتها، تتهيأ وحدها؛ لقبر هذا المشروع، وكانت لحظة الانطلاق وفق قراءة موضوعية، تتعلق بأنّ المشروع الصهيوني برمته وصل أعلى درجات العلوّ والاستعلاء، فكانت لحظة “طوفان الأقصى”، لحظة زمنية فارقة في تاريخ الصراع مع الحركة الصهيونية، ليتحوّل ملك الحركة الصهيونية “نتنياهو” أمام مدّها  لمجرد شبح تائه يحاول الفرار إلى الأمام، تحت وقع الصدمة، ولأول مرة في تاريخ الصراع نجد أنفسنا أمام الزمن الفلسطيني المقاوم، الفاعل والحي، القادر على بناء نموذجه الفريد في استرداد قضيته من فم التنين، لتعيد أيضاً القضية الفلسطينية لبداياتها الأولى قبل 75 سنة مضت.

يحاول “نتنياهو” وقف الزمن الفلسطيني الصاعد، في محاولة أخيرة لاسترداد الخسائر الاستراتيجية التي مُني بها كيانه، لكنّه لا يمتلك الإجابة العملية على تلك المحاولة، طالما أنّ غزة ما تزال حتى هذه اللحظة عصية على التطويع

وليس مستغرباً في مشاهداتنا اليوم، كيف تحوّل منطق كيان الاحتلال، وعبر خطابه وسلوكه السياسي، إلى منطق العصابات التي أسست هذا الكيان، عاد إلى سيرته الأولى كما في البدايات، يحمل نفس الأجندات، لكنّه اليوم خسر الكثير، وخسر معه معظم الدول الغريبة الداعمة له، والخسارة هنا تتجاوز البعد المادي الملموس، لتطال أبعاداً تتعلق بشرعية وجود هذا الكيان من عدمه.

“نتنياهو” بوصفه القائد السياسي الأول في الكيان الصهيوني، يحاول بكل ما يمتلك من أدوات عسكرية وسياسية وقف الزمن الفلسطيني الصاعد، في محاولة أخيرة لاسترداد الخسائر الاستراتيجية التي مُني بها كيانه، لكنّه لا يمتلك الإجابة العملية على تلك المحاولة، طالما أنّ غزة ما تزال حتى هذه اللحظة عصية على التطويع، وطالما أنّها أيضاً ما تزال قادرة على تحويل ميادينها إلى مقبرة لآلياته العسكرية.

ما بعد “نتنياهو”

هناك زمانين يتصارعان اليوم على أرض فلسطين، زمن الحركة الصهيونية التي وصلت إلى منتهاها، وزمن أصحاب الأرض، ولهذا، فإنّ ما يؤرق قادة الاحتلال اليوم لا يتعلق فقط بخسائرهم التي حلّت بهم في السابع من أكتوبر، هم يدركون جيدا، أنّ الخسائر أكبر من ذلك بكثير، الخسائر الفعلية مرتبطة اليوم بسؤال جدوى الوجود على أرض فلسطين، وسؤال الخيارات المتبقية لدى الحركة الصهيونية.

باتت أنظمة التطبيع أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول، الالتحاق الكلي بالزمن الإسرائيلي الغربي، أو الالتحاق بالزمن الفلسطيني، وحتى هذه اللحظة ما تزال تلوذ بالصمت المطبق وهي الأقرب فعلياً للزمن العبري الغربي، بعد أن تعطّل لديها الحس بالتقاط اللحظة التاريخية

وأمام تلك المعطيات، فإنّ الاجتهادات بمآلات الصراع مع كيان الاحتلال اليوم، تطغى على الحيّز المعرفي، فمن الطبيعي لفعل نوعي استراتيجي أن يؤسس لمرحلة جديدة فالخيارات المطروحة اليوم والتي فرضها الزمن الفلسطيني الزاحف بكل قوة، قد وضعها على مسار واحد، يتلخص بوجود ثمن سياسي سيدفعه “نتنياهو” عاجلاً أم آجلا، صحيح لم تتبلور بعد أشكال تلك الخيارات، لكنّ الأكيد أنّ كل ما يُقال على ألسنة الساسة الصهاينة والغربيين والمطبّعين العرب، لا صلة له بالواقع على الإطلاق، والذي يتلخص تحت عنوان “ما بعد حماس”، والصحيح القول الآن “ما بعد نتياهو”،  فالغرب أثبت في هذه المعركة مدى هشاشة خطابه السياسي وتخبطه، بعد أن كشف عن مخبوئه الاستعماري الفج والوحشي، في ما وقفت “إسرائيل” عاجزة عن فهم اللحظة، وهذا العجز ليس لحظيا، بقدر ما هو عجز أصيل في بنيتها، في المقابل أنظمة التطبيع هي الأخرى تعيش لحظة انكسار لا يمكن أن تجبرها الآلة العسكرية الغربية والصهيونية، لحظة الانكسار تلك بدأت تتجلى ملامحها الكبرى اليوم، بعد أن أضحت عاجزة عن تقديم تصور سيادي لشعوبها أمام محرقة غزة، وباتت أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول، الالتحاق الكلي بالزمن الإسرائيلي الغربي، أو الالتحاق بالزمن الفلسطيني، وحتى هذه اللحظة ما تزال تلوذ بالصمت المطبق وهي الأقرب فعلياً للزمن العبري الغربي، بعد أن تعطّل لديها الحس بالتقاط اللحظة التاريخية، فهي ما تزال لصيقة بالزمن الغربي الصهيوني، وهي تدرك ربما، أنّ هذا الالتصاق سيقود إلى هلاكها، لأنّ هذا الخيار هاضم وليس فيه منفعة تبادلية على الإطلاق، خيار عدمي، غير قادر على الحفاظ على بنية النظام السياسي الرسمي.

لا الدعم الغربي قادر على احتواء الفجوة الاقتصادية التي خلّفتها الخرب، ولا الديناميكية الداخلية قادرة على ذلك، فلن تستطيع حكومة “نتنياهو” ولا أي حكومة أخرى ادّعاء تلك المقدرة، والأصل هنا سؤال: ماذا بعد نتنياهو؟

وقد يسأل البعض: ما هو حال كيان الاحتلال بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ هل ستعود الأمور إلى حالها كما كانت قبل السابع من أكتوبر؟، هل يستطيع هذا الكيان وفق إمكانياته الذاتية النهوض من جديد؟ سيما أنّ موارده الاقتصادية استُنزفت في الشهر الأول من الحرب، عشرات المليارات من الدولارات صُبّت من أجل الحفاظ على قيمة العملة المحلية (الشيكل)، مليارات أخرى صُرفت على المجهود الحربي والتعويض المالي الذي طال المهجرين ورواتب جنود الاحتلال، بالإضافة إلى دعم كل قطاعات الإنتاج التي تعطلت بفعل الحرب، يُضاف إلى هذا كله استخدام معظم المخزون النفطي الاحتياطي، وإغلاق آبار الغاز وتعطل التصدير، عدا عن تراجع السياحة وحركة الطيران المدني إلى حدود الصفر، وبالمحصلة، يدور الحديث عن أرقام تتجاوز الـ50 مليار دولار حتى الآن وهي خسائر واضحة ومباشرة ولا تُضاف إليها الخسائر غير المباشرة التي مُني بها كيان الاحتلال، وفي ظل هذا الوضع الاقتصادي هل يمكن لـ”إسرائيل” أن تتواصل مع أوهامها؟، أم أنّ الوقائع ستجبرها على الخضوع ملزمة ومكرهة؟.

فلا الدعم الغربي قادر على احتواء الفجوة الاقتصادية التي خلّفتها الخرب، ولا الديناميكية الداخلية قادرة على ذلك، فلن تستطيع حكومة “نتنياهو” ولا أي حكومة أخرى ادّعاء تلك المقدرة، والأصل هنا سؤال: ماذا بعد نتنياهو؟.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,