عن الهدنة وما بعدها في قطاع غزة

التصنيفات : |
ديسمبر 4, 2023 7:55 ص

*أحمد الطناني – غزة:

بعد ثمانية أيام، مزقت أصوات الصواريخ والقذائف ودوي الرصاص الهدنة الهشة والمؤقتة التي أوقفت القتال والعمليات العدوانية من قبل الاحتلال الصهيوني ضد قطاع غزة. هدنة لم يلتزم الاحتلال ببنودها وتعمّد اختراقها مرات عدة، في ما التزمت المقاومة بتنفيذ شروط الهدنة والتي شملت تسليم دفعات من أسرى الاحتلال مقابل إطلاق سراح الأسيرات والأطفال في سجون الاحتلال.

الصمود والأمل رغم هول الجرائم

أدى انقشاع غبار المدافع إلى كشف الكثير من المآسي التي خلّفها الاحتلال في العديد من الجرائم، خصوصاً في شمال قطاع غزة، حيث أصبح وأمسى أهالي هذه المناطق على التنقيب تحت الأنقاض لإخراج العشرات من الشهداء الذين دُفنوا لأيام تحت أنقاض منازلهم دون تمكن طواقم الدفاع المدني من الوصول إليهم وإخراجهم، والأمر سيان لعشرات من الشهداء الذين كانت جثامينهم منتشرة على الطرق خصوصاً الواصلة بين شمال وجنوب القطاع.

الصمود الأسطوري لأهالي شمال قطاع غزة، شكّل حائط صدّ ومقاومة شعبية مستمرة لمخطط التهجير أدى إلى تأجيل وإفشال العديد من الخطط العملياتية لجيش الاحتلال، الذي قطع كل مقومات الحياة عن أكثر من 700 ألف صامد تمسكوا ببقائهم في أماكن سكنهم في مواجهة القتل والتشريد

شكّلت الهدنة فرصة قصيرة للملمة سريعة للجراح والتقاط الأنفاس لشعب وقع تحت وطأة حرب عدوانية لم يعرف العالم مثل حجمها ضد بقعة جغرافية صغيرة ومحاصرة مثل قطاع غزة. وبالرغم من أنّ دخول المساعدات إلى شمال قطاع غزة لا يكاد يُذكر، إلا أنّه أعطى بارقة أمل للصامدين هناك رغم هول المجازر أنّ هذه الحرب مصيرها الانتهاء، وأنّ الموجة العدوانية الكبيرة ستنكسر أمام صمود الشعب الفلسطيني.

الصمود الأسطوري لأهالي شمال قطاع غزة، شكّل حائط صدّ ومقاومة شعبية مستمرة لمخطط التهجير أدى إلى تأجيل وإفشال العديد من الخطط العملياتية لجيش الاحتلال، الذي انتقم من هذا الصمود بمئات المجازر التي استهدفت البيوت الآمنة والملاجئ والمدارس والمستشفيات، وقطع كل مقومات الحياة عن أكثر من 700 ألف صامد تمسكوا ببقائهم في أماكن سكنهم في مواجهة القتل والتشريد، هذا الصمود عماده الإيمان المطلق بحتمية الانتصار، والأمل بقادم أفضل وهزيمة للمخططات الصهيونية.

المقاومة تستثمر وتعيد ترتيب الصفوف

عملت المقاومة على الاستثمار الأمثل للهدنة المؤقتة في القطاع، وهي هدنة شكّلت فرصة لترتيب الصفوف وتجاوز أي عقبات قد أحدثتها الضربات الكثيفة لجيش الاحتلال على مدار ما يقارب الـ50 يوماً من العدوان المتواصل، وبطبيعة الحال رتبت المقاومة أوراقها وحدّثت خططها العملياتية للتعامل مع استمرار العدوان الذي لن يتوانى فيه الاحتلال عن استخدام كل أدواته لهزيمة المقاومة والقضاء عليها.

حوّلت المقاومة عملية إطلاق سراح أسيرات الاحتلال لديها إلى فرصة استثمرتها بشكل أمثل، حيث حوّلت كل عملية تسليم إلى مجموعة كبيرة من الرسائل التي استعرضت خلالها قدرات التحكم والسيطرة، والتماسك الميداني، والقدرة التفاوضية الندّية، كما حمّلتها رسائل إعلامية قوية حول إنسانية المقاومة ومعاملتها للأسرى وذلك في مواجهة خطاب الدعشنة الذي قدّمه الاحتلال للعالم، وقد برز هذا من خلال المشاهد التي عرضتها المقاومة لعمليات التسليم، في ما شكّلت عملية إطلاق سراح الأسيرات في الضفة الغربية مناسبة يومية لتجديد العهد مع المقاومة والتضامن مع قطاع غزة.

فاوضت المقاومة على التبادل بمنطلقات صلبة، ومن موقع الصامد المتين القادر على استكمال المواجهة، ولم تبدِ أي ليونة تجاه محاولات الاحتلال الخداع أو الالتفاف على مطالبهم، بل وكانت جاهزة لإيقاف الخطوات كلما حاول الاحتلال التلاعب بالقوائم

مشهد تسليم الأسرى في قلب مدينة غزة، وفي نقطة وصلت إليها آليات الاحتلال، بقافلة من المقاومين الذين جابوا شوارع مدينة غزة وسط هتاف جماهيري مؤيد للمقاومة، من جمهور الصامدين من أهالي غزة الخارجين من تحت القصف والدمار الذين سعى الاحتلال لتأليبهم على مقاومتهم، شكّل الرد الأمثل على خزعبلات الاحتلال بأنّ قدرات المقاومة في غزة وشمالها قد تضررت، وأنّ قيادة المقاومة فقدت اتصالها بالقيادات الميدانية على الأرض، وتزامنت مع موعد زيارة “نتنياهو” الاستعراضية لأراضي القطاع التي هدف خلالها لاستعراض سيطرة قواته على الأرض وتقديم صورة المنتصر لجمهوره.

فاوضت المقاومة على التبادل بمنطلقات صلبة، ومن موقع الصامد المتين القادر على استكمال المواجهة، ولم تبدِ أي ليونة تجاه محاولات الاحتلال الخداع أو الالتفاف على مطالبهم، بل وكانت جاهزة لإيقاف الخطوات كلما حاول الاحتلال التلاعب بالقوائم، وكانت على درجة من اليقظة لكشف مناورة الاحتلال لإطلاق سراح مجنّداته تحت دواعي أنّهم ضمن الأسرى النساء، ليخفف من عدد أسراه من الجنود والذي يعلم أنّ ثمنه يجب أن يكون كبيرا.

دفنت المقاومة قادتها الشهداء، مجموعة من أبرز القيادات في شمال قطاع غزة، والذين لطالما أرّقوا الاحتلال، وحوّلوا شمال القطاع إلى حصن منيع، وجّه ضربات نوعية منذ عقود، وحاول الاحتلال اغتيالهم مرات عديدة، وبالرغم من حجم خسارة هؤلاء القادة، إلا أنّ رسائل الميدان في شمال قطاع غزة تؤكد أنّ مسيرة المقاومة متماسكة وأنّ بناءها صلب، وهرمها القيادي جاهز للتعامل مع ضربات بهذا الحجم، وهذا ما يعكسه حجم البطولات التي سطّرها المقاومون في الميدان.

مناورات وخداع مستمر: الاحتلال يبحث عن أهداف كبيرة

منذ اللحظات الأولى للهدنة، لم يلتزم الاحتلال بشروط المقاومة، وخصوصاً انسحاب الطيران المُسيّر ذي المهمات الهجومية والاستطلاعية وجمع المعلومات، وذلك لتأمين مساحة لتحرك المقاومين وجمع أسرى الاحتلال المنوي إطلاق سراحهم ضمن صفقات التبادل الجزئية.

على مدار أيام الهدنة، بحث الاحتلال عن التقاط خيوط توصله لأهداف كبيرة، والتحقق من نتائج ضربات سابقة أعلن أنّه استهدف فيها عدداً لا بأس به من القيادات السياسية والعسكرية في المقاومة الفلسطينية

استغل الاحتلال أيام التهدئة لتحديث بنك أهدافه، وإعادة تقدير الموقف الميداني، وتقييم خطط المقاومة الدفاعية، ودراسة ما تمّ اكتشافه من تحصينات وأنفاق فاقت كل تقديراته عن متانة تحصينها وقدرتها على الصمود أمام أطنان المتفجرات.

على مدار أيام الهدنة، بحث الاحتلال عن التقاط خيوط توصله لأهداف كبيرة، والتحقق من نتائج ضربات سابقة أعلن أنّه استهدف فيها عدداً لا بأس به من القيادات السياسية والعسكرية في المقاومة الفلسطينية، أعلنت المقاومة عن استشهاد بعضهم، في ما بقي مصير البعض الآخر مجهولا، حيث تتحفظ المقاومة عن تقديم أي معلومة مجانية قد تخدم الاحتلال.

بحث الاحتلال عن أخطاء يقع فيها القادة من الصف الأول أو الصفوف الميدانية، سواء عبر الاستهتار باستخدام وسائل الاتصال، أو التحرك الاضطراري من مكامن ومواقع تأمين، أو التحرك لمهام عملياتية مرتبطة بترتيبات خاصة بالمقاومة، وهذا النمط اعتاد الاحتلال أن يقوم به، ففي عدوان عام 2014 نفّذ محاولة لاغتيال محمد الضيف ونجح في اغتيال قائدين بارزين للمقاومة في جنوب قطاع غزة، على أعتاب انتهاء هدنة من الهدن الإنسانية في حينه، وهذا ذاته ما سيسعى لاستثماره بعد انتهاء هذه الهدنة.

ما القادم؟

تحمل الأيام القادمة من عمر الحرب العدوانية على قطاع غزة، أياماً حافلة بالتصعيد الذي سيكون سيد الموقف، حيث أعدّت المقاومة عدّتها للتعامل مع التحركات البرية لجيش الاحتلال على المحاور التي سبق له التقدّم فيها في شمال قطاع غزة، أو المحاور المُتوقع التحرك ضمنها جنوب القطاع وشرقه.

ستعمل المقاومة على توجيه ضربات أكثر تأثيراً لخطوط الإمداد لجيش الاحتلال، وتوجيه ضربات مُركزة لمراكز القيادة الميدانية التي أنشأها جيش الاحتلال داخل المحاور التي سيطر عليها، في ما ستطور تكتيكاتها الدفاعية وفقاً لتقييم المرحلة السابقة، وستعمل على تجاوز كل العقبات العملياتية التي أحدثتها الضربات المكثّفة لطيران الاحتلال.

ستبقى وتيرة التحرك الميداني للمقاومة تستند إلى تكتيكات حرب المدن، واستنزاف آليات جيش الاحتلال عبر استهداف الآليات والجنود من مواضع متعددة بعد تقدّمها داخل مربعات الالتحام المباشر، حيث تعتمد المقاومة على العقد الدفاعية القائمة على تمركز زُمر من المقاتلين في عدة مكامن حول مواضع التقدّم المتوقعة لجيش الاحتلال، توجّه ضربتها وتنسحب لتوجيه ضربات أخرى في مواضع أخرى، ضمن استنزاف متحرك لقوات الاحتلال البرية.

على الجانب الآخر، يخطط جيش الاحتلال للتعمق برياً في محاور جديدة أبرزها المناطق الشرقية على امتداد حدود قطاع غزة، وبشكل خاص شرقي خانيونس، في ما يخطط أيضاً لاستكمال التقدّم باتجاه مخيّم جباليا الذي يُشكّل ثقلاً مهماً تاريخياً واستراتيجياً في محافظة شمال غزة، إذ أنّ المخيّم يُشكّل عنوان الصمود الرئيسي للسكان في شمال قطاع غزة وثقلاً قيادياً مهماً على صعيد غزة والشمال.

المرحلة القادمة هي مرحلة عض أصابع وتثبيت معادلات من كل من الاحتلال والمقاومة، وهي شكل من أشكال التفاوض بالنيران، حيث يسعى الاحتلال لتحقيق نقاط تقدّم وإنجازات عملياتية إضافة لاستكمال الضغط على الحاضنة الشعبية

سيُشكّل التقدّم في هذه المحاور انتقالاً للعملية البرية لمرحلة جديدة تشهد التحاماً أكبر مع المقاومين، إذ تُعد المناطق المستهدفة مناطق ذات كثافة سكانية عالية، إضافة لكونها مواضع تمركز كبير للمقاومة، وسبق أن شهدت معارك ملحمية في جولات عدوانية سابقة، أبرزها الحرب عام 2014، إذ شهدت كلاً من الشجاعية والزيتون وشرق خانيونس معارك ضارية تكبّد فيها جيش الاحتلال خسائر كبيرة، وخطف الجنديين: شاؤول أرون وهدار جولدن.

المرحلة القادمة هي مرحلة عض أصابع وتثبيت معادلات من كل من الاحتلال والمقاومة، وهي شكل من أشكال التفاوض بالنيران، حيث يسعى الاحتلال لتحقيق نقاط تقدّم وإنجازات عملياتية إضافة لاستكمال الضغط على الحاضنة الشعبية، بهدف تحقيق أقرب نقطة لانهيار المقاومة، أو حتى تشكيل الضغط الأقصى لخفض مطالبها وإجبارها على الدخول في ممرات تنازل إجبارية، لم تفلح المرحلة الأولى من الحرب في الوصول إليها.

في ما تسعى المقاومة إلى استنزاف جيش الاحتلال، وتكبيد القوات البرية خسائر كبيرة، تُجبر قادة الاحتلال على مراجعة رهاناتهم وحساباتهم، إذ أنّ معادلة حرب المدن وقتال الغوار هي معادلة تستند لأوسع استنزاف ممكن للعدو في أماكن الالتحام، دون اللجوء لإقامة خطوط دفاعية متينة تسمح للاحتلال باستهدافها من الجو أو بالضغط الأقصى بزج أكبر عدد ممكن من الآليات في مواجهتها.

لا يخدم الوقت وإطالة أمد المعركة قيادة الاحتلال التي ما تزال تبحث عن صورة النصر، في ما يحوّل إطالة أمد المعركة العمليات القتالية إلى نوع من القتال الروتيني، وهو ما يسمح للمقاومة بالتأقلم مع تطورات الميدان وتطوير تكتيكات آنية للتعامل مع شكل التقدّم وطبيعة الميدان، كما لن يُشكّل نجاح الاحتلال في اغتيال أي قيادي في المقاومة في شل قدراتها العملياتية، إذ أنّ استعدادات المقاومة للتعامل مع سيناريوهات شبيهة جاهزة، وتُمكنها من تجاوز الضربات في الهرم القيادي.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,