بين إعلام المقاومة وإعلام الاحتلال
ديسمبر 7, 2023 8:28 ص*موسى جرادات
دشنت حرب الاحتلال على قطاع غزة ، أنماطاً جديدة من نقل الأحداث الجارية فيها، وأبرزت الخطوط العريضة للرسائل الإعلامية بين الطرفين، وتمّ تحديد أسلوب تلك الرسائل.
من البديهي القول إنّ الخطاب الإعلامي الحربي، يكون مشحوناً دائماً بالمطلقات، النصر وسحق الأعداء نتيجة حتمية لنهاية الحرب، فمنذ اللحظة الأولى لبداية العدوان على غزة، طرحت القيادة السياسية للاحتلال جملة من العناوين العامة، حددت فبها أهداف الحرب، وبالتالي، جاءت ضمن الأولويات على الشكل التالي، الإجهاز على المقاومة الفلسطينية، وإبعاد حماس وإلى الأبد عن حكم غزة، وإعادة الأسرى دون مفاوضات، بينما المقاومة بدورها وعبر رسائلها الإعلامية المكثفة، أكدت على أنّ أهداف العدوان لن تتحقّق مهما طالت الحرب.
إحاطة أبو عبيدة ودانيال هاغاري
يُعتبر أبو عبيدة الناطق الأبرز بلسان المقاومة الفلسطينية في هذه الحرب، بالإضافة للعديد من المتحدثين السياسين الذي يعقدون مؤتمراتهم الصحافية في بيروت، ففي إحاطته الإعلامية والتي يظهر فيها كل ثلاثة أيام، يعتمد أبو عبيدة على خطاب موجز، وقته لا يتعدى الخمس دقائق، يوجه خطابه إلى الشعب الفلسطيني وإلى الأمة العربية والإسلامية، وأحرار العالم، ثم يقدّم صورة شاملة لساحة المعركة، على الرغم أنّ الرجل مجهول بفعل الكوفية التي يضعها على وجهة، إلا أنّ الكثيرين من خبراء الإعلام أكدوا على أنّ غياب ملامح الوجه للرجل، لم يفقد رسالته أي معنى، بل أضاف بعضهم أنّ مميزات تلك الشخصية أضافت للمدارس الإعلامية أنماطاً جديدة يمكن أن تُدرّس لاحقاً في الجامعات، يُضاف إلى هذا كله أنّ خطابه الإعلامي كان مقروناً دائماً بشواهد حية بالصوت والصورة تُثبت صدق ما يتحدث، بينما في المقابل يظهر دانيال هاغاري الناطق العسكري لجيش الاحتلال كل ليلة، يقدّم فيها إحاطته لمجريات الأحداث، ويُعد معالم خطابه الإعلامي بأنّه يندرج في سياق التمنيات، المرتبطة بالمستقبل، فالحاضر دوماً غائب عن سياق الخطاب، كل ما يقوله أو قاله طوال الشهرين الماضيين، بأنّهم سوف يعملون، أو أنّ الصورة لم تكتمل بعد، وأنّه لا يستطيع التحدث أكثر من ذلك، وخاصة حين يُجيب عن أسئلة يطرحها إعلاميون عليه دون أن نراهم أو نعرف إلى جهة إعلامية ينتمون، وعلى العموم فإنّ خطابه المنفصل عن الواقع انفصالاً كليا، بعد أن شحّت الصورة لديه، بعد انكشاف التزوير والفبركة التي قدّمها طوال الأسابيع الماضية، بحيث لم يعد قادراً على تزييف المزيد، وبالملخص تأتي كلماته بعيداً عن أية صورة إعلامية من ساحة المعركة، باستثناء بعض الصور الجوية للطائرات الحربية التي تقصف المدنيين والبيوت في قطاع غزة، وبالمناسبة لم يعد يتحدث عن المواقع المستهدفة بعد أن وصل الرقم عنده إلى حدود 40 ألف هدف، وهذا الرقم يجافي الحقيقة ويعادي المنطق، لأنّ مساحة قطاع غزة معروفة للعالم ومواقع المقاومة مجهولة لجيشه.
والغريب في هذه الحرب، أنّها لم تكشف فقط عن ضعف المنظومة التكنولوجية الحربية والأمنية والعسكرية، بل كشفت أيضاً ضعفاً كبيراً في توظيف التكنولوجيا الإعلامية ومنظومة العلاقات مع الإعلام العربي أيضا، والتي افتضخت هي الأخرى بعد أن استندت إلى هذه المنظومة، وهنا طُرح السؤال المركزي الذي يتعلّق بالإعلام الصهيوني بالمجمل، حيث خرج المخبوء في الخطاب من جوف الإعلاميين والسياسيين والمحللين الصهاينة، فما ميز خطابهم أنّه خطاب قلبي محرض على القتل والانتقام، وقد تساوى الجميع في ذلك، بل حتى أنّ وسائل الإعلام الصهيونية كانت تسبق المحللين الإعلامين والمختصين والسياسيين، في قول الخطاب الإنتقامي والتصريح فيه، حتى وصل الأمر إلى الضغط على وسائل الإعلام الغربية وتقديم نفس الخطاب وإن كان بوتيرة منخفضة عن وتيرة الإعلام الصهيوني، فلازمة 7 أكتوبر، تُبرر ما يحدث من مذابح للمدنيين في غزة، بعد أن توقفت ساعة الزمن لديهم عند ذلك اليوم، فقبله لا يوجد صراع ممتد طوال عقود، وبعده لا توجد أحداث يستوجب التوقف عندها، اللهم السعي لإطلاق الأسرى الصهاينة من غزة، وبعدها ليحدث لغزة الدمار الذي تستحقّ وفق منطوقهم.
في هذه الحرب أزالت المقاومة الفلسطينية احتكار الصورة من أيدي الإعلام الصهيوني والغربي، وأصبحت قادرة على الوصول لكل أنحاء المعمورة، بالإعلام البديل المرتبط اليوم بوسائل التواصل الاجتماعي الذي فتح نافذة كبرى في هذا الجدار، وطرح سؤال كبير يتعلق بوسائل الإعلام الصهيونية والغربية التي لم تظهر على حقيقتها فقط في فن صناعة الكذب، بل تجاوز الأمر حدود ذلك، فقد كشفت الحرب أنّ تلك الوسائل الإعلامية التي تجندت لصالح الاحتلال، بعد أن رمت خلفها ما كان يُسمى بالموضوعية والشفافية والحياد، وأغلقت الأبواب لأي صوت مخالف لها، وزادت على ذلك إرهاب “الضيف” وجعله يتكلم وفق منطوقهم، وإذ بأخلاق المهنة الإعلامية مجرد نكتة سمجة ليس لها رصيد، فالكل مجنّد لخدمة الاحتلال حتى على حساب البديهيات والضمير الشخصي، وكل من حاول أن يجد لنفسه مخرجاً لهذا المأزق، وجد نفسه خارج فضاء هذا الإعلام “الحر” الذي ادعى طوال الوقت أنّ هدفه الفعلي هو هدف إنساني عام، وأنّ الحقيقة منطلقه وأنّ الإنسان غايته، يكفي فقط أن نقول إنّ أعداد الصحافيين الذين استُشهدوا في غزة منذ بداية العدوان تجاوز 80 صحافيا، مع العديد من التهديدات والرسائل التحذيرية التي وصلت غيرهم من الأحياء منهم، بأنّ مصيرهم القتل، وقد اختصر زعيم المعارضة لدى كيان الاحتلال يائير لابيد في لقاء إعلامي مع وسائل إعلامية غربية وكررها بشكل متواتر، “إنّ عليكم تجنّب الموضوعية والحياد، لأنّ هذا الأمر سيقود حتماً إلى انتصار الرواية الفلسطينية، عليكم الانحياز لنا” فهنيئاً لإعلام يعلن الانحياز ويختار طوعاً أن يتحول لمجرد بوق للدعاية الحربية الصهيونية، المؤلم في هذه الحالة أنّنا نجد بعض وسائل الإعلام العربية اختارت وبوعي هذا الطريق.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
إعلام الاحتلال, إعلام المقاومة, الاحتلال الإسرائيلي, الدعاية الصهيونية, الرواية الفلسطينية, جرائم الاحتلال, صمود, طوفان الأقصى, فلسطين المحتلة, موسى جرادات