عن مثلث المواجهة: جباليا والشجاعية وخانيونس
ديسمبر 11, 2023 8:01 ص*أحمد الطناني – غزة:
منذ انتهاء الهدنة المؤقتة في قطاع غزة، استؤنف القتال على نطاق أوسع مما كانت عليه منذ بداية الحرب العدوانية التي يشنّها الاحتلال الصهيوني مستخدماً شتى صنوف الأسلحة وفق استراتيجية تهدف لإحداث أوسع دمار ممكن، بأكبر عدد ممكن من الضحايا.
أعلن جيش الاحتلال عن بداية المرحلة الثانية من حربه على قطاع غزة، المرحلة التي تشمل التحرك البري في جنوب قطاع غزة، والتقدم نحو مناطق حضرية وسكانية بشكل أكبر، بعد أن ارتكز تحركه البري في المرحلة الأولى على الالتفاف حول الأحياء والمخيّمات الكبرى وتجاوزها وصولاً لغرب مدينة غزة وشمالها سعياً لخطف صورة لنصر معنوي جوهره كان الوصول لمستشفى الشفاء الذي ادعى أنّه مركز للقيادة.
فشلت المرحلة الأولى، ولم ينجح الاحتلال في تسويق صور نصر بحث عنها في أنقاض غرب مدينة غزة، دمر خلالها كل المنشآت الاقتصادية والجامعات والمستشفيات، وارتكب مجازر بكل بقعة ومكان، وحاول تحويل اقتحام مستشفى الشفاء إلى ما يُشبه “سقوط بغداد” بحثاً عن انهيار معنوي لدى المقاومة أو جمهورها، أو نصر معنوي يقدّمه لجبهته الداخلية، دون أن ينجح في أي منها.
سكان قطاع غزة، وأجهزة الأمن الصهيونية، وأجهزة الاستخبارات العربية والعالمية التي تنشط بلا شك في القطاع، تراقب وتحلل وترصد وتقدّر، كلهم يعلمون جيداً أنّ غرب غزة ورغم ثقله الاقتصادي والإداري والمعنوي، لا يُشكّل فعلياً أي ثقل للمقاومة، وأنّ قوى المقاومة في قطاع غزة، تعمل وفق هياكل أفقية، موزعة على كل محافظات ومناطق وحتى أحياء القطاع وفق تسلسلات هرمية محلية، وتشكيل أفقي واسع ومهيأ للتعامل مع كل سيناريوهات الانقطاع الجغرافي وحتى انقطاع منظومات القيادة التقليدية، وهو ما يعني أن لا هزيمة للمقاومة ولا نصر للاحتلال بالوصول (الذي لم يكن سهلاً بالمناسبة) لمناطق غرب غزة.
لحظة الحقيقة
عرف الاحتلال أنّ الرهان على سيناريوهات الانهيار المعنوي، أو نجاح الضربات الجوية المكثفة على كل محافظات القطاع، والدمار الهائل، والاستهداف الموسع، والحصار القاسي وتجويع السكان، لن ينجحوا في تحقيق أهدافه، فلا الحاضنة الشعبية للمقاومة انهارت رغم هول المآسي، ولا منظومات القيادة والسيطرة للمقاومة توقفت، وهو ما يعني أنّ لحظة الحقيقة قد حانت، لا سبيل لتحقيق أهداف الحرب، أو حتى تقديم ادعاء بتحقيقها بدون تحقيق انتصارات ميدانية حقيقية والتعمق في المواجهة.
وسّع الاحتلال من عملياته، وأعلن أنّ جنوب قطاع غزة سيكون ساحة للتحرك البري إضافة لتوسيع التحرك في شمال قطاع غزة، ليُدخل ضمن الاستهداف المناطق الشرقية لمحافظة غزة، وبشكل محدد حيي الشجاعية والزيتون، اللذين يُعدان أكثر الأحياء كثافة داخل المحافظة، وأكثرهم خبرة وتمرساً في مواجهة الاحتلال، ولهما باع طويل في تحويل كل عملية اقتحام إلى ملاحم بطولية حطمت الكثير من مواضع فخر جيش الاحتلال وداست نخبته.
إلى جانب توسيع التحرك جنوب القطاع وشرق غزة، مثّل مخيّم جباليا التحدي الأكبر منذ بداية الغزو البري للقطاع، حيث أنّ للمخيّم رمزية كبيرة لعدة اعتبارات ستُذكر لاحقا، ومن جانب آخر، فإنّ أهالي المخيّم ورغم كثافة المجازر التي نُفّذت بأطنان الصواريخ التي قُصف بها ومسح مربعات سكنية كاملة، لم يقبلوا النزوح ولا مغادرة المخيّم، ولم تفلح كل محاولات ترهيبهم أو دفعهم للنزوح، أو حتى تجويعهم في إفراغ المخيّم من أهله، الذين صمدوا صموداً أسطورياً لا تتسع كل السطور لوصفه.
هذه المواقع الثلاثة تُشكّل اليوم مثلث النار الذي يمثّل محور العمليات الرئيسي في هذه المرحلة من الغزو البري لجيش الاحتلال، هي مواقع لها ثقلها الميداني، ووزنها المعنوي، ودورها الاستراتيجي ضمن معادلة قطاع غزة، الجغرافية والسكانية، وضمن منظومات المقاومة وتمركزها، كما لها تاريخها الحافل في مقارعة الاحتلال.
عن جباليا
في رحاب ذكرى انتفاضة الحجارة، يكون لجباليا السبق دائمًا فمن مخيم اللاجئين الأكبر في قطاع غزة، والبقعة السكانية الأكثر كثافة بالعالم، كانت شرارة الانتفاضة التي دشنت معنى جديد للنضال الوطني الفلسطيني، وأدخلت مصطلح الانتفاضة إلى كل قواميس العالم، ونقلت ثقل المواجهة إلى داخل الأرض المحتلة، من جباليا بدأ هذا كله، ولم ينتهِ إلى يومنا هذا.
لطالما شكّل مخيّم جباليا خزان للثورة الفلسطينية، ومن أزقته اشتعلت الانتفاضة الأولى، ومن ذات الأزقة كانت العمليات النوعية في انتفاضة الأقصى، حيث ترك أبطال المخيّم بصماتهم بقوة في تطور الفعل المقاوم، وكان لأبطاله مساهمة مهمة في إنتاج أولى نماذج الصواريخ المحلية، وشكّل اجتياح المخيّم معضلة دائمة أمام جيش الاحتلال الذي انكسر مرات عديدة على أعتابه، وكان أبرزها في اجتياح “أيام الغضب” بالعام 2004 والمواجهة الأسطورية لأبطاله التي منعت دبابات الميركافا من أن تطأ قلب المخيّم.
منذ بداية الحرب العدوانية على القطاع، حصل مخيّم جباليا على حصة الأسد من الاستهدافات المتعددة، وتمّ مسح مربعات سكانية كاملة بكل من يقطنها عن وجه الأرض، وضُربت كل مقومات الحياة فيه، وتمّ تدمير مستشفياته ومراكزه الصحية، وقُصفت حتى أماكن الإيواء فيه، سعياً للانتقام من المخيّم.
اغتال الاحتلال قادة المقاومة في المخيّم، أبطال قارعوا الاحتلال منذ أكثر من 20 عاما، ولكن لم تنكسر المقاومة فيه، ولم ينكسر مخيّم جباليا، يفرض الاحتلال حصاره على المخيّم منذ أسابيع، وقد ضرب آبار المياه ومخازن الطعام ومنع تقديم العلاج وحتى دفن الشهداء، ولم ينكسر المخيّم.
يحاول الاحتلال الدخول تدريجياً إلى مخيّم جباليا منذ أيام، وكلما تقدّم أمتاراً من عمق المخيّم، كانت ضراوة القتال في مواجهته، أرتال الآليات تحترق على مشارفه، ومن بين الأنقاض يخرج أبطال المخيّم ليُذيقوا آلياته وجنوده حمم النار.
عن الشجاعية
يعرف كل سكان غزة أهالي الشجاعية، فهم أهل نخوة، وشجاعة منقطة النظير، وهو حي تقطنه حمولات عائلية كبيرة، كلها اشتهرت بشهدائها، وللشجاعية مكانها في وجدان كل فلسطيني، فهو الحي الذي لطالما تقهقر على أعتابه جيش الاحتلال، ودُمرت في شوارعه فخر الصناعة الصهيونية، وهو الذي داس أبناؤه على رأس جنود الاحتلال في موقع “ناحل عوز” في الصورة الشهيرة خلال حرب عام 2014.
يعاني جيش الاحتلال من حالة نفسية يُطلق عليها المختصون اسم “رُهاب الشجاعية” وهي ناتجة عن الخوف المطلق لجنود الاحتلال من الدخول إلى قطاع غزة بسبب الرعب من أن يكون مصيرهم الموت احتراقاً داخل الآليات، مثلما كان مصير من سبقوهم، خصوصاً زملاء الجندي الأسير لدى المقاومة شاؤول آرون، الذين فجّر أبطال الشجاعية والزيتون آليتهم وحولوها إلى كومة من النيران وسحبوا من داخلها شاؤول آرون تاركين خلفه مجموعة عسكرية كاملة تحترق بنيران المقاومة.
منذ سنوات انتفاضة الأقصى، كان للشجاعية دائماً مساهمتها الكبرى، وحوّل أبطالها كل اقتحام إلى ملحمة كبرى، وأحالت العديد من آليات الاحتلال إلى كومة من الحديد، وكان لأبنائها بصمات مهمة في تطور مسيرة المقاومة في قطاع غزة، ومنها خرجت فكرة أول صاروخ محلي الصنع، وأول محاولات صنع طائرات مسيّرة خلال انتفاضة الأقصى.
فصل الاحتلال حي الشجاعية عن حي الزيتون، وضرب حصاراً على كافة محاور الحي ذي الكثافة السكانية، ودمر المعالم الأثرية التي تقع على مشارف الحي، وقصف مسجدها العمري الكبير، وسوقها القديم، واغتال بعض قادتها الميدانين وهدد الباقين بذات المصير، فكان رد أبطال الشجاعية واضحا: “الدبابة تحترق” في أكثر المشاهد وضوحاً حول فعالية القذائف المضادة للدروع المُصنّعة محلياً في مواجهة الآليات الأكثر تحصيناً في العالم، فالدبابة مرة أخرى ومرات، تحترق على مشارف الشجاعية، التي يصف قادة جيش الاحتلال مقاتليها بأنّهم من طراز خاص لا يعرف الانسحاب، ويبقى في ميدان المواجهة بشجاعة.
عن خانيونس
خانيونس وهي المحافظة الأكبر جغرافياً في قطاع غزة، لها رمزيات متعددة، فخانيونس مسقط رأس أهم قادة في معادلة المواجهة الحالية، قائد أركان المقاومة وظلها محمد الضيف، وقادة فصائل المقاومة على اختلافهم، وهي بقعة ارتكاز تاريخية للمقاومة، ولأبطالها في كل محطات المواجهة بصمات مهمة لا يتسع أي مقال لذكرها.
دشّنت خانيونس مراحل كثيرة من تطور الفعل المقاوم في قطاع غزة، وعلى أرضها تحطمت قوة العمليات الخاصة الأكثر تدريباً واحترافية في جيش الاحتلال “سيرت متكال” وأفشل مقاوموها مخطط من أخطر المخططات الذي استهدف اختراق منظومة الاتصال الخاصة بالمقاومة، ونجحت خانيونس في التصدي له وإفشاله وتلقين هذه القوة درساً لن تنساه، في مشهد وصفه رئيس الأركان السابق لجيش الاحتلال “غادي إيزنكوت” بأنّه الفشل الأكبر في مسيرته العسكرية.
بالمناسبة، عبوة العمل الفدائي، التي يستخدمها مقاومو قطاع غزة في مواجهة الآليات الصهيونية المقتحمة، نبعت فكرتها من تضحية مقاوم من خانيونس بنفسه، حاملاً عبوة ناسفة على ظهر دبابة، حين اختار الاستشهاد مفجّراً نفسه مع العبوة بالدبابة لتحقيق المدى الأمثل لإلحاق الضرر الأكبر بالآلية، وهو النموذج الذي حوّلته المقاومة إلى عبوة حملت اسم “العمل الفدائي” شكّلت مكوّناً رئيسياً من مكونات المواجهة الحالية.
على مشارف خانيونس، ومنذ أيام، كلما تقدّمت الآليات تحترق بقذائف وعبوات المقاومين، في ما كانت رصاصات قناصي المقاومة بالمرصاد لرؤوس الجنود، وشكّلت كمائن النار والمنازل المفخخة مكوّناً مهماً في مواجهة محاولات الجنود التمركز، والمواجهة من نقطة صفر هي سيدة الموقف.
الالتحام الأكبر
قد ينجح الاحتلال في الدخول لعمق المناطق الثلاثة التي تقع على رأس أولوية عملياته البرية الحالية، ومن حيث المبدأ لا تعمل المقاومة وفق منطق الخطوط الدفاعية الساعية لمنع تقدّم الآليات، بل هي تخوض حرب الغوار، مستخدمة تكتيكات حرب العصابات في المدن، والتي ترتكز بدرجة أساسية على تحقيق أوسع استنزاف ممكن في قوات العدو بعد تقدّمه إلى مناطق الالتحام.
دخل الاحتلال مرحلة التعمق في الأحياء الأكثر سخونة، وهي مرحلة ستشهد بلا شك نهاية غزوه البري للقطاع، وستدشّن خلاله المقاومة فصلاً دراسياً جديداً في الكليات العسكرية في العالم، حول أكثر المواجهة البرية الحديثة ضراوة في قتال الشوارع، وكيف تمكنت مقاومة مُحاصرَة من تحويل أكثر الآليات تحصيناً في العالم، إلى كومة من الحديد المحترق بقذائف محلية الصنع، وكيف جندل مقاومو غزة أكثر الجيوش تدريباً في المنطقة.
لن ينجح الاحتلال في خطف صورة نصره، بل سيزيد من حجم صور فشله، وستكون صور القتال الملحمي للمقاومين هي سيدة الموقف، وسيُعجّل هذا الالتحام من نصر حتمي لقطاع غزة ومقاومته، حين يُكسر الجيش الذي لا يُقهر ليس مرة بل مرات ليغادر قطاع غزة إلى الأبد مدحورا.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
أحمد الطناني, أيام الغضب, الاحتلال الإسرائيلي, الحاضنة الشعبية, الحرب على غزة, الغزو البري, المقاومة الفلسطينية, انتفاضة الأقصى, جباليا, حرب 2014, حي الشجاعية, خانيونس, رُهاب الشجاعية, شهداء غزة 2023, صمود, صواريخ محلية الصنع, طوفان الأقصى, عبوة العمل الفدائي, فلسطين المحتلة