عن غزة المستثناة من شرعة حقوق الإنسان

التصنيفات : |
ديسمبر 18, 2023 8:00 ص

*وسام عبد الله

لسنا بحاجة للذهاب إلى قطاع غزة لنشهد على الإبادة الجماعية التي ينفّذها الاحتلال بحقّ المدنيين، وقد لا نكون بحاجة إلى إيضاح القوانين لندرك انتهاك الكيان المستمر لكافة المعايير الإنسانية، والتي لن يخضع لها بأي حال كونه ليس دولة شرعية، فالكلام عن حقوق الإنسان ضرب من الهذيان، لكنّ غزة تُبدل الرؤية والقراءة للعديد من القضايا المسلّم بها.

معظم المؤسسات والقوانين التي تتخذ صفة “الدولية” مثل الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، تبلور وجودها من رحم الحروب والصراعات بين الدول، حينما وصلت المجتمعات إلى قناعة بإمكانية إدارة الصراع بينها عبر المؤسسات والمنظمات، فالاتحاد الأوروبي وقوانينه هي الطريق التي اختارها الأوروبيون حتى لا تُعاد جولات القتال في ما بينهم.

أنتجت البشرية على امتداد عصورها المختلفة، قوانينها، بعد مرورها بالمعارك في بحثها عن السلطة أو التملك أو الثروات، فهي بحالة بحث مستمرة عن إنسانيتها، تنجح أحياناً وتخفق أحياناً أخرى، لكنّه مسار متواصل في حياتها. وفلسطين جزء من هذا الطريق الطويل.

لا “حقوق” للإنسان الفلسطيني

قصف المستشفيات ومراكز إيواء النازحين، تدمير المدارس ودور العبادة، واغتيال الاطباء والصحافيين وموظفي المنظمات الدولية، أفعال مارسها الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين في غزة، وكل واحد منها يقابله مبدأ وقانون في شرعة حقوق الإنسان والقوانين الدولية، التي تحميها وتؤكد على ضرورة تجنبها في حالات الحرب، لكنّ الاحتلال تجاوزها جميعها دون أن يردعه أحد، فنحن أمام شلل لقدرة تنفيذها ولمحاكمة المسؤولين الصهاينة.

منذ النكبة الأولى شكّلت فلسطين أحد النماذج الإنسانية، لمن ينتهك حرمة الإنسان وكرامته وحقّه في الحياة

وفي المقارنة بين حقوق الإنسان ومصلحة الدول، يغلب الطرف الثاني من المعادلة، فالفرنسي، الذي يتغنى في تاريخه بالثورة الفرنسية وما حملته من مبادئ، لم يستطع اتخاذ الموقف الحاسم في إدانة العدوان على المدنيين في غزة، وإنّما ذهب بالتصريحات السياسية على لسان رئيس دولته إيمانويل ماكرون إلى حد المزايدات في دعم الاحتلال وتجريم حركة حماس.

توصيف ما يحدث في قطاع غزة منذ ما يزيد عن شهرين أنّه ليس بالجديد، فمنذ النكبة الأولى شكّلت فلسطين أحد النماذج الإنسانية، لمن ينتهك حرمة الإنسان وكرامته وحقّه في الحياة، والتي لا تحتاج إلى مستندات مكتوبة، فكل إنسان له القدرة على التمييز والدعوة لها. فأين غزة من الحقوق والقوانين والمواثيق الدولية؟.

استمرارية الدفاع عن الحقوق

على الرغم من عدم الجدوى الحالية في الحديث عن المحاكمات أو الاعتراف بالحقوق المشروعة، من الضروري البقاء على المطالبة بها والحديث عنها وتثبيتها بالوثائق القانونية، وتقديمها إلى المنظمات الحقوقية الدولية، فهذا المسار جزء من المقاومة في ظل الهجمة والمساندة غير المسبوقة للاحتلال من مختلف الحكومات، لذا يتطلب مراكمة الجهود، لأنّ كل ثغرة نتركها سيستغلها العدو لكي يتخذها مبرراً له.

الحديث عن الحقوق والقوانين، موجّه بالدرجة الأولى لنا وللأجيال القادمة، حتى يكون أحد الأساسيات في دفاعها عن أرضها، وبالدرجة الثانية هو يخاطب المجتمعات الأجنبية، التي تبيّن أنّها بوصول الصورة الحقيقة لها يمكنها اتخاذ مواقف ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، وهذه المساحة هامة للتوسع بها في شرعة حقوق الإنسان، في ما تُعتبر مخاطبتهم بلغتهم، ليست عبر اللغة فقط وإنّما بالمعنى التاريخي والقانوني والإنساني الذي يفهمونه ويدركون أهميته.

من يقول إنّ في الحرب عمليات استباقية بهدف الدفاع عن النفس، يجب عليه الدفاع عن حقّ الإنسان الفلسطيني كخطوة استباقية لكل المجتمعات حتى لا يحدث لها ما يتعرّض له أطفال ونساء ورجال القطاع

فنضال الشعب الفلسطيني، سيكون في المستقبل أحد المحطات في تاريخ البشرية وهي تبحث عن إنسانيتها، لأنّ كل حقّ ينطلق من الفرد والمجتمع، وما حدث في غزة قد يحدث في أي منطقة في العالم يوماً ما، والتاريخ يشهد على الكثير. فمن يقول إنّ في الحرب عمليات استباقية بهدف الدفاع عن النفس، يجب عليه الدفاع عن حقّ الإنسان الفلسطيني كخطوة استباقية لكل المجتمعات حتى لا يحدث لها ما يتعرّض له أطفال ونساء ورجال القطاع.

وإلى حين تصل البشرية إلى تلك المرحلة من الدفاع عن حقوق الإنسان/ الفلسطيني، يبقى أول التحديات حين تنتهي الإبادة الجماعية في غزة، كيف سيكون تطبيق حقوق الإنسان على آلاف الأطفال اليتامى، وحقّهم في الحياة الكريمة، عن الأفراد الذين اختفت عائلاتهم بالكامل بسبب مجازر الاحتلال الذي دمّر كل معالم الحياة في غزة. بعد انتهاء هذه الجولة من الحرب ثمة منحى آخر في الدفاع عن كرامة الإنسان ومعركة من نوع مختلف لا تقل أهمية عن المقاومة العسكرية.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,