جريمة “وأد الأحياء” في سياق المشروع الصهيوني

*أحمد حسن

يعرف الجميع، داخل “إسرائيل” وخارجها، أنّه لم يعد أمام نتنياهو من سبل للنجاة، الشخصية والسياسية، سوى التعلق بقارب الحرب، لكنّ الجميع يعرف أيضاً أنّ كل لحظة تمر وكل متر في أرض غزة يجتازها هذا القارب تُثبت أنّه قارب مثقوب ولا أمل ولا إمكانية لإصلاحه، لكنّهم يعرفون أيضاً وأيضاً أنّه قارب ضروري لاستمرار الهيمنة الغربية، وذراعها الإسرائيلية، على مقدرات المنطقة كلها.

هكذا نفهم أموراً تبدو متعارضة ظاهرياً لكنّها تعبّر في مضمونها عن حال هذا القارب اليوم، منها مثلاً محاولة الجميع، عدا نتنياهو والمتطرفين في حكومته، القفز منه في الوقت الذي يدعمون فيه استمراره في الإبحار على دماء أهل غزة وأجسادهم -بايدن مثالهم الأوضح-، كما نفهم أيضاً تلك المحاولات الإعلامية المحمومة، وبعضها عربي للأسف، لتغطية الجرائم الإسرائيلية وقوننتها في الوقت الذي تعرّت فيه “تل أبيب” من أي قشرة حضارية حاولت، وحاولوا، خلال الفترة الماضية إلباسها إياها.

إنّ عمق إيمان قادة المشروع الغربي -العلماني على ما صدعوا به رؤوسنا- في المنطقة بميثولوجيا ترتدي اللبوس الديني وترى أنّ من يعاديها، منذ وعد “يهوه” الشهير وحتى نهاية العالم، هم من “الغوييم” الأغيار أو الكنعانيين والوحوش البشرية، الذين يجب إبادتهم و”تحريم”، أي قتل، كل رضيع وامرأة ورجل فيهم

وفي هذا السياق الآنف الذكر نفهم كيف أنّه، ورغم وحشيتها الهائلة والتي تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، إلا أنّ جريمة دفن مواطنين فلسطينيين أحياء في ساحة مستشفى كمال عدوان لا تُقرأ فقط في سياقها الإجرامي الحالي بقدر ما يجب قراءتها في السياق العدمي التاريخي لكيان غريب لم يعد لديه، ولم يكن لديه أصلا، من خطط لليوم الثاني للحرب إلّا الحرب ذاتها عبر إدامة الاحتلال ومواصلة القتل والدمار لسببين اثنين: أولها، ما كشفه السابع من تشرين الأول/ أكتوبر و”طوفان الأقصى” عن وهن قاتل في قوة الكيان، وهي، أي القوة، أس وجوده وبقائه في الآن ذاته، وثانيها، عمق إيمان قادة المشروع الغربي -العلماني على ما صدعوا به رؤوسنا- في المنطقة بميثولوجيا ترتدي اللبوس الديني وترى أنّ من يعاديها، منذ وعد “يهوه” الشهير وحتى نهاية العالم، هم من “الغوييم” الأغيار أو الكنعانيين والوحوش البشرية، الذين يجب إبادتهم و”تحريم”، أي قتل، كل رضيع وامرأة ورجل فيهم، وذلك، كي نكون واقعيين، لا يتمّ اليوم استناداً لسردية تلك الميثولوجيا الغريبة فقط، بل واستناداً لدعم مطلق من “إسرائيل الجديدة” أي واشنطن التي لم تكترث، سواء كان “بيتها الأبيض” أو “كونغرسها”، بحجم المأساة الإنسانية، ولا بعدد الضحايا في صفوف الأطفال والنساء وكبار السن.

فأمام كل هذه الجرائم لم يجد مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، ما يناقشه مع الإسرائيليين، وفق تصريح المتحدث باسم الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، سوى “احتمال الانتقال مما نسميه العمليات عالية الكثافة، وهو ما نراهم يفعلونه الآن، إلى عمليات أقل كثافة في وقت ما.. في المستقبل القريب”، وهذا كلام لا يفسَّر إلا بكونه رخصة أمريكية رسمية للقتل بكل “الكثافات” الممكنة والمتاحة، وهو ما تفعله “إسرائيل” جيدا.

إنّ ما يبدو من بوادر عملية تضحية بأحد “ملوكها”، نتنياهو اليوم، لن تتمّ لاقترافه جريمة حتى ولو كانت بمستوى وأد الأحياء، فهذا ديدن جميع من سبقه ومن سيتلوه، بل لأنّه لم يستطع، لظروف خارجة عن إرادته وقدرته، تثمينها في سياق تحقيق الهدف الشخصي والعام في الآن ذاته

بهذا المعنى، فإنّ بايدن، الصهيوني كما أعلن مراراً وتكرارا، لم “يهزّ العصا لإسرائيل”، على ما قال البعض تفسيراً لبعض تصريحاته الأخيرة، بقدر ما هزّها لنتنياهو شخصيا، لأنّ هذا الأخير ربط مصيره الشخصي، منذ الانتخابات الماضية وتحالفاتها المربكة لواشنطن وصولاً إلى “الطوفان”، بمصير “إسرائيل” كلّها، وكما كاد في تحالفاته الانتخابية أن يشعل حرباً “أهلية” في الداخل الإسرائيلي من أجل نجاته الشخصية، فهو يكاد أيضاً بأدائه الإجرامي والفاشل في مواجهة “الطوفان” أن يضع “إسرائيل” على حافة وجودية ومن أجل نجاته الشخصية أيضا، وهذا أمر لا يمكن لواشنطن، ومشروعها العالمي، قبوله فـ”لو لم تكن هناك إسرائيل لكان علينا أن نخترع واحدة”، وهذا أيضاً ما يفسّر، إضافة إلى عامل البروز الشخصي، محاولة إيمانويل ماكرون، تشكيل تحالف دولي ضد حركة حماس.

خلاصة القول، جريمة وأد الأحياء في مستشفى كمال عدوان، ليست أمراً غريباً في السياق الإسرائيلي التاريخي، سواء في زمنه الميثولوجي السابق أو الواقعي الحالي، كما أنّ عدم اكتراث الغرب بها ليس أمراً جديداً أو غريباً عن سياقه التاريخي هو أيضا، فالمهم لدى الطرفين هو بقاء “إسرائيل” بمكانها ومكانتها في المشروع الغربي، وبالتالي فإنّ ما يبدو من بوادر عملية تضحية بأحد “ملوكها”، نتنياهو اليوم، لن تتمّ لاقترافه جريمة حتى ولو كانت بمستوى وأد الأحياء، فهذا ديدن جميع من سبقه ومن سيتلوه، بل لأنّه لم يستطع، لظروف خارجة عن إرادته وقدرته، تثمينها في سياق تحقيق الهدف الشخصي والعام في الآن ذاته، وبالتالي، مرة جديدة، فإنّ الحديث المستجد عن مفاجأة كبرى في موضوع تبادل الأسرى لا يتمّ لأهداف إنسانية بل لهدف إنقاذ الكيان فقط لا غير، لكن ما يحاول الجميع تجنب مناقشته هو أنّ هذا “الطوفان” الذي زعزع أركان الكيان ليس إلا مقدمة لـ”طوفانات” أخرى ستسأل فيها “الموؤدة” بأي ذنب قُتلت وستحاسب قاتلها حكما، وتلك، للمفارقة، هي الحقيقة الوحيدة في سياق “إسرائيل” التاريخي.

*كاتب سوري