“حماس” القادمة
ديسمبر 28, 2023 8:45 ص*محمد القيق – الضفة:
بعد السابع من أكتوبر لم ولن يكون كما قبله على الصعيد الفلسطيني والإقليمي والدولي.
حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) التي لديها باع طويل في القتال بحسب الخبراء والتقارير، ولديها فروع ومكاتب ومؤسسات وهيئات وأجنحة نقابية وإجتماعية وسياسية وإعلامية وعسكرية، الآن هي التي عليها العيون الدولية، ماذا وكيف وبأي شكل ستكون بعد هذه الحرب الطاحنة التي عنوانها “تدمير حماس وسحقها”، ويتداول ساسة الغرب وبعض العرب قراءة اليوم التالي للحرب والحكم وشكله في غزة وغزة فقط، في إشارة لإلغاء الوجود السياسي الفلسطيني في الضفة الغربية.
محطات تاريخية مهمة سنذكر بعضها المفصلي هنا في مشهد الحركة:
*انطلقت في عام 1987، وتبع ذلك اعتقالات واسعة لكل قياداتها وأفرادها حتى مطلع التسعينيات في محاولة لإضعافها، فطورت وسائل قتالها لتتأقلم مع حجم المرحلة حتى وصلت للبندقية.
*الإبعاد عام 1992، إلى مرج الزهور ومعها قيادات الجهاد الإسلامي كي يتمّ التخلص منها، فحولت مكان الإبعاد إلى محطة إعلام وقرار سياسي توافد إليه آلاف الصحافيين والساسة من أرجاء العالم، ما زاد قوتها بالتزامن مع تصاعد عملياتها العسكرية في داخل فلسطين؛ بما في ذلك أسر الجنود.
*بعد مجزرة الاحتلال في الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، دخلت حماس مرحلة جديدة من خلال أحد قادتها المهندس يحيى عياش وانتهجت سياسة العمليات التفجيرية داخل الحافلات ومفترقات الشوارع في المدن الإسرائيلية.
*باتت أذرعها النقابية والطلابية تحصد أعلى الأصوات في انتخابات الجامعات والنقابات بحسب النتائج الرسمية واستطلاعات الرأي والباحثين الدوليين في ظل مشروع أوسلو الذي قادته فتح؛ برزت حماس معارضاً رئيسيا للاتفاق ونجحت في تعبئة الشارع ضد التنسيق الأمني.
*عُقد مؤتمر شرم الشيخ في آذار/ مارس عام 1996 لمحاربة الإرهاب، وكان الهدف “سحق حماس”، فباتت أقوى انتشاراً وفعلاً رغم أنّها ليست سلطة فعلية، وامتد تأييدها ليشمل العالم العربي والإسلامي بشكل واسع، وساعدت في ذلك الحالة الثورية العربية والاحتلال الإسرائيلي للبنان ورفض الشعوب العربية لاتفاقيات “كامب ديفيد” ووادي عربة.
*تعرّض قياداتها للإغتيال والإعتقال والإبعاد في إطار جهد أمني لسحقها، ولكنّ ذلك حوّلها إلى جيش منظّم بدأت تتشكّل نواته بعد انتفاضة الأقصى وكان ظهوره القوي في غزة، لتطور أدواتها إلى الهاون والعبوات.
*بعد بناء الجدار العنصري ظنّ الاحتلال أنّه انتهى من خطر “حماس” والمقاومة، فابتكرت فكرة الصواريخ والتي بدأت في محيط غزة، فقام الاحتلال بهجمات نوعية للسيطرة على المشهد، لتكون النتيجة توسع هجمات المقاومة الصاروخية لكل الغلاف ما سبّب الانسحاب الإسرائيلي منها عام 2005.
*فازت “حماس” في الانتخابات التشريعية التي حظيت بمراقبة دولية عام 2006، فعملت أمريكا على حصارها سياسياً وإجبار العالم على مقاطعتها، فعمدت إلى إثارة الفتنة الداخلية من خلال اللعب على وتر السلطة والانقسام والتجاذبات والفوضى الخلاقة في غزة، وتمّ اعتقال كل قيادات حماس ووزراء حكومتها وأنصارها على يد الاحتلال في الضفة، وبالتالي انقسم المشهد وانحصر حكم الحركة في غزة، وبقيت الضفة تحت قيادة السلطة شكلا، أما واقعاً فالاستيطان والجنود يحكمونها بالنار.
*تطورت قدرات “حماس” الإدارية العسكرية والتنظيمية الميدانية، لتتمكن في حزيران/ يونيو من عام 2006 من أسر جندي في ظروف صعبة، فكان الرد الإسرائيلي حصاراً مشدداً للضغط على الكتلة البشرية في غزة.
*تعرضت غزة لحروب عدة وحصار إسرائيلي وعربي ومن أعالي البحار حتى قال محمود عباس لرئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم معتذراً عن حضور قمة الدوحة أثناء الحرب على غزة في يناير 2009 “إذا حضرت القمة سأُذبح من الوريد للوريد”.. فتغلبت “حماس” على الحصار والعقوبات بإنشاء شبكة أنفاق ضخمة وعميقة ومجهزة هندسيا، وأنجزت صفقة تبادل للأسرى هي الأولى في تاريخها عام 2011 بعد مفاوضات شاقة بحسب ما صرح به الوسطاء، تلا ذلك تطويرها لصواريخ تصل مدناً إسرائيلية بعيدة بينها حيفا و”تل أبيب”، وأعادت أسر جنود إسرائيليين مرة أخرى ما زالوا بحوزتها منذ 2014.
*اجتمعت أمريكا مع الحلفاء وقرروا تشديد الحصار واستمرار إشغال “حماس” بالمشاكل الداخلية اليومية والتحسين الحياتي ودوامة المصالحة وسراديب الوعود وغيرها، فمنعت أمريكا الانتخابات عام 2021 حتى لا تصل “حماس” إلى الحكم، كما وضعت “فيتو” الدخول لمنظمة التحرير وهددت كل من يسعى للم شمل الفلسطينيين.
*جاءت معركة “سيف القدس” في أيار/ مايو عام 2021، لتصبح سيطرة “حماس” العسكرية عابرة لغزة، حيث تقرر إلغاء مسيرة الأعلام الإسرائيلية في القدس لتضع الحركة خريطة جديدة كانت “إسرائيل” تحاول طيلة سنوات عدم الوصول إليها، فأصبحت “حماس” تتحكم بالمشهد السياسي والأمني في الضفة وغزة والقدس وما بعدها في إطار وحدة الساحات التي أفرزت غرفة مشتركة إقليمية.
*تقررَ مزيد من السحق للحركة فكانت النتيجة قوة عسكرية وتقنية وأمنية وطائرات بدون طيار وأنفاق في غزة ومجموعات عسكرية في نابلس وجنين وطولكرم وأريحا ولبنان وسوريا، وبدل أن تُسحق “حماس” توسع ميدان سيطرتها حتى باتت في 2022 ومنتصف 2023 تحصد أعلى الأصوات في انتخابات بلديات ونقابات ومجالس طلبة في الضفة الغربية، وتنفّذ عمليات نوعية ضد المستوطنين والجنود، وتعالى صوت لدى المحللين الإسرائيليين وجنرالات في الجيش الإسرائيلي أنّ الردع يتآكل وهيبة الجيش تتلاشى و”حماس” باتت تقرر حركة الطيران في “إسرائيل”.
*عقدت أمريكا و”إسرائيل” قمم شرم الشيخ والعقبة 2022، لمواجهة نفوذ “حماس” والمقاومة في الضفة الغربية، وكان عنوان القمم تفكيك الجبهات والاستفراد بها بفتنة في لبنان وترهيب وترغيب في غزة، وباشرت بتزويد السلطة في الضفة بأسلحة وتكثيف الاحتلال للهجمات والاقتحامات والقتل وإطلاق العنان للمستوطنين، فكانت النتيجة تدهور أمن المستوطنين في الضفة ومدن “إسرائيل” وزيادة المجموعات العسكرية والحاضنة الشعبية في الضفة، حتى تشكّلت رغبة لدى الشعوب العربية بمساعدة الفلسطينيين؛ وكان نموذجاً منها النائب الأردني الذي اعتقله الاحتلال بعد إدخاله كميات من الأسلحة للمقاومة في الضفة، ما اعتبره خبراء الأمن لديهم مؤشرات ناسفة لمخططاتهم الرامية إلى إلغاء المقاومة والوجود الفلسطيني، وفي خضم التدهور في الضفة دشّنت “إسرائيل” أسوارها الإسمنتية والحديدية والحواجز المائية والتكنولوجية، وفي احتفالية التدشين أعلن قادتها إنجازهم التاريخي في مراسم أُقيمت بقرب السياج لخنق غزة والتخلص من خطر الصواريخ والأنفاق العابرة.
الصدمة غير العابرة
كانت الصدمة يوم السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر حيث مئات المقاتلين في جنوب “إسرائيل” يجوبون شوارعها ويدمرون فرقة غزة ويأسرون الضباط والجنود ويحتلون مراكز شرطية وعسكرية وأمنية، وآلاف الصواريخ والطائرات المسيرة والتقنيات والهجوم المنظم، في مشهد يستحق أن يقال عنه “صدمة القرن” الذي جاء نتاج سنوات طويلة من محاولة السحق لـ”حماس” وجعلها محاصرة وضعيفة.
فجاء قرار “بايدن” ومعه أوروبا وصمت العرب لينفّذه قادة “إسرائيل” وعنوانه لا يختلف عن أول مؤتمر لمحاربة “الإرهاب” في شرم الشيخ المصرية 1996.
اشتد الحصار وانقطعت المياه والكهرباء والحياة وبدأ القصف والدمار والمجازر للضغط لسحق “حماس”، فكانت النتيجة حاضنة شعبية عابرة للقارات وهتاف لمحمد الضيف المجهول صورةً أمام البيت الأبيض، ومدن “إسرائيل” تحت النار وبات الجنرالات المتقاعدون في الجيش الإسرائيلي يتساءلون “حماس تعيد جنودنا من غزة جثثاً ومعاقين، والأحياء منهم أسرى، ونافذتنا الدولية تُغلق رويداً رويدا، وسحق حماس ما زال عنواناً إخباريا”، بينما البحر الأحمر والمضيق محرّم على سفن “إسرائيل”، ومستوطنات الشمال والجنوب فارغة، والإقتصاد مشلول، والبرلمانات في العالم تفتح ملف فلسطين وتطلب حقّ أطفالها وتبارك مقاومتها، وأهم من ذلك وبعد فشل كل الأهداف باتت “حماس” محط أنظار كل العالم، فبدل عزلها صار الحديث معها توصية استراتيجية، وبدل مقاطعتها انتشرت فكرتها.
استطاعت “حماس” أن ترسخ نظرية القضية الفلسطينية في عام 2023، وتجاوزت الفتنة الداخلية والطائفية العربية والإسلامية، وجمعت كثيراً من الجهود شتّتتها سنوات الفوضى الخلاقة التي بثّتها أمريكا في المنطقة.
ولذلك، ولأنّ “حماس” نجحت في العبور الدقيق دون انفجار لغم سياسي أو طائفي أو جغرافي فيها؛ فهي الآن جامعة للرأي ورابطة للمواقف ومتقدمة للصفوف.
فما هي “حماس” القادمة؟!
*قيادتها المقاوِمة وإتقانها الهجوم والدفاع، وتوسُّع قدراتها لتصل مخيّمات اللجوء والجوار وتفعيل الضفة وانتشار الفكرة، سيجعلها رقماً صعباً أكثر من ما قبل7 أكتوبر.
*شريان رئيسي في منظومة محور يمتد جغرافيا، وله حاضنة وقضية، وبات قويا تسنده دول، وله امتداد تستطيع العبور من خلاله في ظل التموضع الجديد لبناء التحالفات الرامية لدفن أحادية القطبية، أما عدالة القضية الفلسطينية فهو عنوانها الجامع.
*بإنجازها الوثيقة الملحقة للميثاق عام 2017 بقبولها دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، تجاوزت “حماس” عقبات لإبقائها دافعة ثمن دون مقابل، وزارعة دون حصاد، ومضحية دون إنجاز، لذا تسلحت “حماس” بالمقاومة وهذا أهم بنود شكلها القادم، واستندت لوثيقة 2017 ومبادرة مؤسسها الشيخ أحمد ياسين قبل ثلاثة عقود ومجريات التحول على الساحة الدولية.
*لم تغفل “حماس” لغة المصالح والتوقيت، وكذلك المتاح والمؤجل والمطلوب والمهمش، وهذا يُسمى إعادة ترتيب الأوراق وبناء الرؤية خلافاً لكثير من التنظيمات أو الحركات المتشنجة عند نقطة أو المنهارة لحظة السلام أو المندفعة لحظة القتال، هنا نموذج تكوّن حديثاً في برنامج “حماس” وصقل واجهتها ووضّح رؤيتها، وهذا سيساعدها على اختصار كثير من العقبات، وسيمكّن لها دوراً إقليمياً من منطلق موقعها الجديد، ليس رغبة دولية به بل تفادياً لمخاطر غير متوقعة، ورؤيتها التي تُبنى على مقاومة قوية وقرارات دولية وحاضنة شعبية وامتداد لمحور له من الأوراق ما لا يسمح بالعبث.
*حماس القادمة ستكون في محطتين: أولها شرعية مقاومة مستندة إلى الشرعية الدولية، ما يسمح بتوسع تحالفها ومحورها وقبولها لا سحقها، وثانيها شرعية صندوق انتخابي إلزامي للجميع بعد أن كان أملاً أو رغبة أو طلبا، وبالتالي إعادة تموضع فرضته الأحداث القائمة حتى اللحظة.
المرحلة المقبلة، وضمن المعطيات الأولية من انهيار الرواية الإسرائيلية واقتراب العالم شعوباً وحكومات من التعرف على القضية ووجهة نظر “حماس” بوثيقتها وصمود ميدانها وترسيخ السردية الفلسطينية؛ ستكون مرحلة خروج “حماس” من الأنفاق إلى صناعة القرار وليس السحق، وستحكم بشرعيتين.
آلاف من هذه التصريحات “سحق حماس” منذ 1987 أيام الحجر إلى طوفان 2023 بددها الواقع وتحولت حماس فعلا لا فكرة في مخيّمات اللجوء على الحدود تسليحاً وتدريباً وتجهيزا، فكلما قرروا حصرها انتشرت وحكمت، والآن هي مقبلة على دور إقليمي ملزم بفعل الأحداث.
هنا محطة فارقة، حينما تتوازى السياسة والدبلوماسية مع العسكرية والتكتيك، لن تؤدي هكذا معادلة للاندثار، بل للتقدّم والتحكم والسيطرة والقيادة.
لم يعد أمام “إسرائيل” إلا اختصار المحطات وكسب الوقت وخفض سقف التهديدات، لأنّها تخسر كل يوم ما اعتقدت أنّها استثمرت لأجله.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
أنفاق حماس, الاحتلال الإسرائيلي, الانتخابات الفلسطينية, التنسيق الأمني, الحرب على غزة, السردية الفلسطينية, الضفة الغربية, المقاومة الفلسطينية, حماس, سيف القدس, صمود, طوفان الأقصى, فلسطين المحتلة, محاربة الإرهاب, محمد القيق, محور المقاومة, مخيّمات اللجوء, مرج الزهور, مشروع أوسلو