عن العدالة الدولية و”خائنها” و”محكمة المقاومة” الحقيقية
يناير 9, 2024 7:34 ص*أحمد حسن
ربما كي نفهم بعض، وليس كل، خلفيات الموافقة الإسرائيلية على السير في إجراءات الدعوى التي رفعتها ضدها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بتهم الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة، من استعادة تاريخية لما حصل عام 1986 حين أصدرت المحكمة ذاتها حكماً لصالح نيكاراغوا في القضية التي رفعتها ضد الولايات المتحدة الأمريكية وأمرت فيه واشنطن بإيقاف الجرائم والمجازر والإرهاب الدولي الذي تمارسه هناك، لكنّ الإدارة الأمريكية نظرت باحتقار إلى قرار محكمة العدل وقالت إنّها هي التي تقرّر ما هو شرعي وما هو غير شرعي في نيكاراغوا وليس هذه المحكمة!، وهذا “قول” يعلن أنّها دولة فوق القانون، وذلك ما أثبتته بممارستها الفعلية، وما أورثته أيضاً لأتباعها الخلّص، وأهمهم بالطبع “إسرائيل” التي تمتّعت، قبل ذلك التاريخ وبعده، بحماية فعلية وقانونية كاملة لكلّ جرائمها الموثّقة بالصوت والصورة على امتداد أرض فلسطين وما جاورها.
هنا يمكن القول إنّ ذلك تحديدا، أي كون “إسرائيل” دولة فوق القانون، كان السبب المخفي، وإن لم يكن الوحيد، في عدم مقاطعة إجراءات المحكمة التي ستبدأ جلساتها يوم الخميس، وذلك وإن كان تناقضاً منطقياً كما يبدو، إلا أنّه سيحقّق لها فوائد أخرى يمكن الإشارة إلى أبرزها وهي:
أولا، بقبولها السير في إجراءات الدعوى تقول “إسرائيل” للعالم إنّها “دولة طبيعية” ومسؤولة، وقد قبلت الدعوى لأنّها من الدول الموقعّة على اتفاقية الإبادة الجماعية، وبالتالي ستسعى بالسبل القانونية المتعارف عليها -وهذه تحتاج إلى وقت طويل من الأخذ والرد- إلى تبيان صواب موقفها، ودحض “الاتهام السخيف الموجّه إليها”، كما وصفه رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي.
ثانيا، على الرغم من خطورة الاتهام الذي أوردته جنوب إفريقيا في (84) صفحة، فإنّه لا يتطرق، بطبيعته، إلى جوهر القضية الفلسطينية الحقيقي وهو الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الفاجر وحقّ الشعب الفلسطيني في دولته الحرة المستقلة، وبالتالي فإنّ قرار المحكمة -إن صدر ضدها- سينضم إلى سواه من القرارات الدولية التي “تحتقرها” وترفض تنفيذها لأنّها تعلم جيداً أنّه، وعلى غرار راعيها الأمريكي، هي التي تقرر ما هو إبادة وما هو غير إبادة في فلسطين.
ثالثا، ربما كان في قرار المحكمة القادم ما يشكّل مخرجا، منطقيا، من حرب أصبح واضحاً أنّ استمرارها يعني تهديداً وجودياً لـ”دولة إسرائيل” ذاتها.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فمن المفيد الإشارة هنا إلى مسار القضية المرفوعة ضدها في المحكمة الجنائية الدولية حيث ينوب عنها المدعي العام للمحكمة، كريم خان، بـ”احتقار” كل متطلبات منصبه ومسارات عمله الطبيعية بعد أن بدأ – بحسب المحامي تريستينو مارينيلو، عضو الفريق القانوني الذي يمثّل ضحايا غزة أمام المحكمة- بـ”تطبيق معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل”، فالرجل، أي المدعي العام، الذي لم يحتج إلا إلى عام واحد فقط لتحديد “الحالات الملموسة في الحرب المستمرة بأوكرانيا” كما “نشر أول سلسلة من الإجراءات الوقائية التي كان لها تأثير رادع بعد وقت قصير من بدء الحرب هناك”، لم يصدر، خلال نحو عامين ونصف، أي أمر اعتقال أو استدعاء للتحقيق بالانتهاكات في الأراضي الفلسطينية بل “لم يتمْ إجراء أي تحديث أو اتخاذ أي خطوات وقائية منذ حزيران/ يونيو 2021″، ولم يزرْ الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ورغم أنّه استجاب سريعاً لطلبات لقاء الإسرائيليين المتضررين من هجمات حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ومحاميهم، والتقى بهم أكثر من مرة، إلّا أنّه لم يلتقِ بالنازحين الفلسطينيين خلال زيارته لمصر في 29 أكتوبر، والأخطر من ذلك أنّ تحقيقاته فُتحت أساساً ضد جهات غير حكومية، أي أنّها “لم تلمْ إسرائيل بشكل مباشر”، وهذا ما يُعتبر، في عالم قانون الغابة المنفلت، إطلاق نار مسبق ومتعمّد على الحقيقة والمسؤولية الجنائية لمجرمي الحرب.
مارينيلو اعتبر أنّ ذلك أمر محيّر، وتلك لغة دبلوماسية لقانوني كبير، لأنّ الأمر في حقيقته واضح وضوح الشمس. “خان”، وعلى ما يبدو، ليس إلّا موظفاً كبيراً في المشروع الغربي الذي لا يكترث لحياة الفلسطينيين ومصائرهم، لذلك مثلا، وبالرغم من الدعوى الجنوب إفريقية، واصلت السفيرة الإسرائيلية لدى بريطانيا، تسيبي حوتوفلي، دعوة الإبادة الجماعية لأهل غزة دون أن تُواجه بما تستحقه من إدانة وردود فعل، فقد سبقها بالإجرام رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون حين أدان قيام شرطة لندن بالتحقيق بشأن “جرائم حرب إسرائيلية في غزة”، ولحقها مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي سابقا، حين وقّع، فخورا، على قذائف مدفعية ستُطلق نحو لبنان.
لكنّ الواقع يقول إنّ هذا الإجرام كلّه أصبح خارج المعادلة التي ترتسم على الأرض يومياً بدماء وأرواح المقاومة التي قالت للجميع إنّ كرامة الفلسطينيين وحريتهم وحقّهم لا تنتظر قراراً لن ينفّذ من محكمة العدل الدولية، ولا إنسانية مفقودة من سفيرة إسرائيلية أو حقاً ضائعاً من نائب رئيس أمريكي سابق أو حالي، ولا من “خان” الذي خان مبادئ القانون وشرائع الأرض والسماء ظنّاً منه أنّه يعيش في عام 1986، فـ”المحكمة” الحقيقية اليوم هي من نصبها أبطال فلسطين على أرض غزة، و”مدّعيها العام” سينتقل إلى كل بقعة من أرض فلسطين الطاهرة لينقل مبادئ صمودها ودلائل حكمها النهائي والباتّ باسم شعب الجبارين ولا أحد آخر.
*كاتب سوري
وسوم :
أحمد حسن, إبادة جماعية, الاحتلال الإسرائيلي, الحرب على غزة, الكيان الصهيوني, المقاومة الفلسطينية, تريتينو مارينيلو, تريستسنو مارينيلو, جنوب إفريقيا, دولة فوق القانون, صمود, طوفان الأقصى, فلسطين المحتلة, قانون الغابة, محكمة العدل الدولية, نزوح