جنوب إفريقيا وكيان الاحتلال في محكمة العدل الدولية
يناير 13, 2024 9:00 ص*عبد الرحمن جاسم
لا ريب أنّ الثائر الإفريقي العظيم نيلسون مانديلا مرتاح اليوم حيثما هو، لقد أثمر زرعه: فالكيان العنصري الذي حاربه وانتصر عليه، اندثر اليوم حتى من القلوب والعقول. وحدها جنوب إفريقيا اليوم، قررت أن تخوض حرب الإنسانية جمعاء في الدفاع عن حقوق الفلسطينين ضمن ما يُسمّى بالقانون الدولي. أيدت دول كثيرة مثل كولومبيا والبرازيل وبنغلادش والأردن وجيبوتي وجزر القمر وسواها مسعى جنوب إفريقيا برفعها للدعوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، لكنّ الجنوب إفريقيين وحدهم من رفعوا هذه الدعوى النادرة للمطالبة بإيقاف الحرب، ومعاقبة الصهاينة على جرائمهم ضد البشرية إزاء ما يفعلونه من “محرقة” في غزة وأهل غزة، وعموم فلسطين. تكمن أهمية هذه الدعوى الفريدة من نوعها في أنّها المرة الأولى التي تقدَّم من دولة تجاه “دولة” أخرى، وليس من منظمة حكومية أو غير حكومية، وأنّها تقدَّم في محكمة العدل الدولية. وكان مجموعةٌ من الشباب الفلسطيني قد تجمّع في ساحة نيلسون مانديلا البارحة ليلاً لغناء النشيد الوطني الجنوب إفريقي.. شكراً لهذا الحس الإنساني العظيم؛ والعلاقة بين الفلسطينيين ومانديلا وجنوب إفريقيا لربما من أقدم العلاقات مع قضية شعبية إذ أيدت الثورة الفلسطينية حقّ الجنوب إفريقيين في مقاومة نظام الفصل العنصري، وكان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات واحداً من أوائل الشخصيات العامة التي زارت مانديلا إبان خروجه من معتقله بعد 27 عاماً قضاها هناك، ونجاحه في صعود كرسي الحكم. إتحد الشعبان خلف نضالاتهما ومعاناتهما، وهما اللذان لطالما حكيا أنّ حكم نظام “الأبارتهايد” في جنوب إفريقيا مشابه بحرفيته نظام الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة، وأنّ سقوط واحد منهما سيعني حكماً أنّ سقوط الآخر أمر حتمي ولو بعد حين.
اليوم، وفي محكمة العدل الدولية يخوض الجنوب إفريقيون المعركة متسلحين بمنطق “الحقّ ضد الباطل” لا أكثر ولا أقل. وبحسب ما أعلنه كلايسون مونيلا، المتحدث باسم وزارة العلاقات الدولية والتعاون الجنوب إفريقية، في تدوينة على منصة أكس، فإنّ القضية ستبدأ مفاعيلها في لاهاي الهولندية خلال اليومين القادمين. ويذكر أنّهم كانوا قد علّقوا علاقتهم الدبلوماسية مع كيان الاحتلال، في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الفائت، إحتجاجاً على “هجماتها التدميرية” و”الكارثة الإنسانية غير المسبوقة”. تبدأ قصة هذه الدعوى منذ زمن طويل، ومنذ العام 1948، وهي السنة التي شهدت توقيع جنوب إفريقيا (وكانت تحت حكم الأبارتهايد) وكيان الاحتلال الصهيوني على إتفاقية “الإبادة الجماعية”، التي تمنح محكمة العدل الدولية “التخصص القضائي” للفصل في النزاعات بين الدول، بناءاً على ضوابط هذه الاتفاقية. تُلزم هذه الإتفاقية الدولية جميع الدول الموقعة بمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والتي عُرفت آنذاك بأنّها: “الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”، ومنعها، ومراقبتها. ومنذ أحداث “طوفان الأقصى” والتي بدأت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الفائت، يشنّ العدو الصهيوني “حرب إبادة” بحقّ الفلسطينيين بكل ما للكلمة من معنى، وهو بالدقة ما أشار إليه سفير فلسطين في بريطانيا حسام زملط حينما أشار في رسالة نشرها عبر منصة أكس مواكبةً للدعوى ضد كيان الاحتلال. يوضح الجنوب إفريقيون في دعوتهم المؤلّفة من 84 صفحة، أنّ الاحتلال قد قتل ما يقارب الثلاثة وعشرين ألف شخص (وهي جريمة إبادة لم تحدث منذ الحروب العالمية الكبرى)، وهجّر أكثر من مليوني شخص، فضلاً عن قطعه للماء والكهرباء، وأساسيات الحياة عن عدد مماثل من السكان، ناهيك عن عدم توفير الملاجئ، والمساعدات الإنسانية أو السماح بعبورها للمحتاجين جراء “العملية العسكرية” التي لا تزال تحتدم. تنسب الدعوى إلى الاحتلال “تقاعسه عن منع مسؤولين فيه من التحريض على الإبادة الجماعية، وهو ما يخالف نصوص الاتفاقية بوضوح” وفيه إشارة بوضوح إلى رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته. بنفس الوقت؛ تؤكد الوثائق الجنوب إفريقية أنّ “ما يحصل في غزة هو إبادة” لأنّها تهدف إلى تدمير جزء كبير من “المجموعات الوطنية والعرقية والإثنية الفلسطينية”، كما أنّها تسبب وتسببت في “أذى جسدي، وعقلي، خطير لهم، وفرضت عليهم ظروفاً معيشيةً تهدف إلى تدميرهم بجميع الطرق”.
وفي النظام؛ تتألف المحكمة “الناظرة” في هذه القضية من خمسة عشر قاضيا، يُضاف إليها قاضٍ واحد من كل طرف، وصحيح أنّها ذات قرارات “ملزمة” لكنّ القضاة لا يستطيعون تطبيق هذه الأحكام على أي دولة، لأنّهم لا يمتلكون سلطة تطبيق الأمر. ما تحاول جنوب إفريقيا الوصول إليه، هو “إلزام كيان الاحتلال بتعليق كل عملياته العسكرية، ضمن إجراءات طارئة سريعة”، ذلك أنّ القضية قد تأخذ أعواماً للوصول إلى قرارٍ باتٍّ فيها. اللافت في الأمر أنّ القضية التي يرفعها الجنوب إفريقيون اليوم والتي تدور فحواها حول “فلسطين” وشعبها، لن يكون للفلسطينيين أي رأي فيها، ذلك أنّ فلسطين ليست دولة عضوة في الأمم المتحدة حتى اليوم. أما بالنسبة لسياق الجلسات، ففي البداية، كان للطرفين يومان منفصلان، ولمدة ساعتين كاملتين، قدّم خلالها كل طرفٍ حججه القانونية دفاعاً عما يقوله أو تأكيداً ونسباً له. ويحاول الجانب الجنوب إفريقي الحصول على “استجابة سريعة” ووقف “سريع للعمليات العسكرية” كنوع من الأوامر التقييدية لجيش الاحتلال وكيانه. هذا الأمر هو المحور الأهم الذي سترتكز عليه كل جهود ومساعي القضية أصلا؛ إذ أنّ هذا النوع من “التدابير” موضوع أساساً لعدم تفاقم الصراع والتشجيع عليه. الجدير بالذكر هنا، أنّ المحكمة قد تساعد أيضاً عبر قراراتها بالسماح بدخول مساعدات إنسانية إلى غزة وبشكل سريع.
على جانب الاحتلال، يدخل الكيان إلى هذه المحاكمة لا كما يدّعي بأنّها “إتهامات سخيفة وتفتقر إلى أي أساس واقعي أو قانوني”؛ أو كما قال رئيسها الضعيف إسحاق هيرتسوغ: “بشع ومنافٍ للمنطق”، بل لأنّ مصداقية وشكل كيان الاحتلال الإستيطاني الإمبريالي قد تضررا وكثيراً جراء الوحشية غير المسبوقة التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني الأعزل خلال المائة يوم المنصرمة. هذا الأمر أكدته الصحافة والإعلام العبريان إذ أنّ هناك خشية فعلية في المؤسسات، السياسية، العسكرية والأمنية في “إسرائيل” من صورة “الكيان الخارجية”، وأنّه سيشكّل “سابقة قانونية مضرة لا بل ومدمرة لسمعة الاحتلال”. أشارت صحيفة هآرتس عبر “خبير قانوني معروف لم تكشف عن إسمه” أنّ هرتسي هاليفي (رئيس الأركان في جيش الاحتلال) وعدداً كبيراً من ضباط الجيش، متخوفون من “قرارات المحكمة” هذه، وقد “بدأوا وبشكل فعلي التحضير مع مكتب المدّعي العام بالعمل بالفعل استعداداً للتعامل مع هذه الشكوى بشكلٍ جدّي”، وقد يؤدي قرار مشابه إلى “عزلة دولية أو فرض عقوبات عليها، أو على الشركات التي تحمل جنستها”. ذات الأمر كانت قد أشارت إليه صحيفة الغارديان البريطانية في مقالة لباتريك وينتور، من أنّ ضرراً كبيراً سيلحق بسمعة الكيان نتيجة لحكم ضدها، وهذا الأمر قد يكون سبباً في تعديل “حملتها” العسكرية الحالية. يُذكر أنّ الصهاينة كانوا قد أرسلوا رئيس المحكمة العليا الصهيونية السابق أهارون باراك للمشاركة في جلسات الاستماع، لإعطاء نوع من “المصداقية” و”الجدية” على مزاعمهم. هذا القرار المنشود قد تتخذه المحكمة بعد أسابيع من الإستماع، وقد لا تفعل، وذلك مبني أصلاً على جلستي الاستماع الحاليتين. استباقيا، كان الكيان العبري قد لوّح إلى “الدفع بأنّ المحكمة ليس لديها أسس قانونية للنظر في هذه الدعوى”، وهو سيعمد إلى “تظهير” ذلك الدفع وتقديم “اعتراض مبدئي” مرتكزاً على “الاختصاص القضائي”، هذا سيفعله بالتأكيد في حال أنّ المحكمة أخذت أي قرار لا يجده مناسبا؛ وهو بالتأكيد ما سيفعله بحسب الظاهر حتى اللحظة. هذا الأمر، أي “الاختصاص القضائي”، هو أمر تحدده المحكمة بحد ذاتها، وفي حال “رفضته” سيُعاد لاستكمال الجلسات العلنية، والتي قد تأخذ سنوات بين الدعوى الأولية والجلسات الفعلية للنظر في موضوع القضية. بقي أن نشير إلى نقطة مهمة وهي المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي يشير نصها إلى أنّه: “إذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، ولهذا المجلس، إذا رأى ضرورة لذلك أن يقدّم توصياته أو يصدر قراراً بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم”.
هذه القضية، مهما كانت نتيجتها، هي لربما محاولة أخيرة، من هذا الجانب من “العالم” في محاولة رأب صدع بات كبيراً وللغاية مع عالم الغرب المتوحش والذي لا يهتم ولا يرى قضاياه المحقّة إلا من جانب الاحتلالات الإمبريالية البغيضة: عالم لا يفهم بغير القوة، عالم لا يرى القضاء والمحاكم إلا وسيلة لتحقيق مآربه.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
إبادة جماعية, الاحتلال الإسرائيلي, الاحتلالات الإمبريالية, الحرب على غزة, القضاء الدولي, الكيان الصهيوني, جرائم الاحتلال, جنوب إفريقيا, صمود, طوفان الأقصى, عبد الرحمن جاسم, فلسطين المحتلة, لاهاي, مجازر الاحتلال, محاكمة إسرائيل, محكمة العدل الدولية, ميثاق الأمم المتحدة