عبث “كافكاوي” على إيقاع المجزرة

*أحمد حسن

على غرار كل الأحداث الكبرى، فإنّ بعضاً من تجليات مسرح “العبث” أو اللامعقول بالتوازي مع بُعد “كافكاوي” واضح يظهران في خلفية المشهد السياسي المحيط بالمجزرة المستمرة في غزة، فبينما يرسم بنيامين نتنياهو خارطة حياة جديدة للمنطقة على جثة غزة وسكانها، يقدّم له بعض العرب شريان حياة اقتصادي يساعده على استكمال المجزرة بـ”أهلهم” على ما يفترض واقع الحال، وفي ما يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاقتناص موقع المدافع عن غزة من جهة أولى وللنأي بنفسه، من جهة ثانية، عن المسؤولية، كسواه، في استمرارها، تنهمر مليارات الدولارات على مصر في لحظة تاريخية ملتبسة لتبدو كثمن لدور مقبل ما، أو على الأقل كـ”ريع” مشبوه لموقع جيوسياسي يُستخدم ضد الأهل وضد النفس بالمحصلة الأخيرة لحسابات الربح والخسارة عند أصحاب رؤية الأمن القومي الحقيقي.

والأمر، فإنّ أردوغان الذي ينتقد القوى الغربية ومجلس الأمن لأنّهما “لم يبذلا جهداً مجدياً لوقف الوحشية الإسرائيلية”، كما قال، لم يبذل بدوره سوى بعض الفولكلور الكلامي في دعم غزة، وهو دعم لا يصمد، إلا في ميزان “العبث”، مقابل ما بذله من جهد اقتصادي كشفته البيانات الشهرية التي لا تكذب لدعم “الوحشية الإسرائيلية” هناك، في ما تبدو محاولة الخروج المصرية من الأزمة الاقتصادية ببيع مقدرات “الدور الطبيعي” لأم العرب كانخراط آخر في رحلة التيه “الكافكاوية” التي بدأت مع “كامب ديفيد” ولا يبدو لنهايتها أفق ما في ظل الإصرار على سياسات ستنعكس، وقد انعكست، في كل مرة سلباً على مصر ذاتها قبل الآخرين.

لكنّ العبث الحقيقي تمثّل بوثيقة نتنياهو لـ”اليوم التالي” لأنّ الرجل الذي ارتكب 19 نوعاً من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية المخالفة للقانون الدولي ضد المدنيين الفلسطينيين، وفشل رغم ذلك في مواجهة حركة مقاومة محدودة العدد والقوة

لكنّ العبث الحقيقي تمثّل بوثيقة نتنياهو لـ”اليوم التالي” لأنّ الرجل الذي ارتكب 19 نوعاً من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية المخالفة للقانون الدولي ضد المدنيين الفلسطينيين، وفشل رغم ذلك في مواجهة حركة مقاومة محدودة العدد والقوة، يبدو أنّه بدأ يسقط تحت وهم النصر المطلق فيقوم من مكتبه بتوزيع الأدوار المستقبلية على الجميع مصرّاً على “مواصلة الجيش الإسرائيلي لحربه حتى تحقيق أهدافها، بتدمير القدرات العسكرية والبنية التحتية السلطوية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإعادة المحتجزين الإسرائيليين، ومنع أي تهديد مستقبلي من قطاع غزة”، كمرحلة أولى، واحتفاظ “إسرائيل” في المرحلة المتوسطة، بـ”حريّة عملياتية في جميع مناطق غزة، من دون قيود زمنية، بهدف منع تجدد الإرهاب”، في ما المرحلة الثالثة ليس لها، وفق الوثيقة، إلا تأبيد الاحتلال لفلسطين مباشرة ولجوارها القريب والبعيد بصورة غير مباشرة.

ذلك عبث مطلق نتيجة وهم قاتل بنصر مطلق لرجل، أوهمته الصورة “الكافكاوية” لبعض العرب وسواه، أنّه يستطيع أن يقرّر مصير الآخرين في ما تقول نتائج “الطوفان” الفعلية أنّه لم يعد يبحث اليوم سوى عن مصيره شخصياً في اليوم التالي لانتهاء هذه المجزرة

والحال، فإنّ ما قاله الرجل في الوثيقة قُتل تجريباً عبر العقود الماضية وأثبت في كل مرة فشله المدوي، فـ”المنطقة الأمنية التي سيتمّ إنشاؤها في المنطقة المتاخمة لـ”إسرائيل” ستظل قائمة، ما دام أنّ هناك حاجة أمنية إليها” كانت قائمة بالفعل، والتعاون مع “مصر وبمساعدة الولايات المتحدة، لمكافحة التهريب تحت الأرض وفوق الأرض بما في ذلك عبر معبر رفح” كان قائماً وبقوة، أما السيطرة الأمنية “على كامل المنطقة الواقعة غرب الأردن، بما في ذلك محيط غزة (براً وبحراً وجوا، والطيف الكهرومغناطيسي)” فقد أثبت “الطوفان”، كما حرب تموز/ يوليو 2006، أنّها أوهى من شبكة العنكبوت.

وعند هذا القدر من “العبث” لا يعود مهماً إيراد بقيته المتضمّنة تحديد نتنياهو لشكل وطبيعة الإدارة المدنية القادمة في “القطاع” وصولاً إلى تحديد أسمائهم لو استطاع، أو “رفض إسرائيل بشكل قاطع الإملاءات الدولية بشأن التسوية الدائمة مع الفلسطينيين”، فذلك عبث مطلق نتيجة وهم قاتل بنصر مطلق لرجل، أوهمته الصورة “الكافكاوية” لبعض العرب وسواه، أنّه يستطيع أن يقرّر مصير الآخرين في ما تقول نتائج “الطوفان” الفعلية أنّه لم يعد يبحث اليوم سوى عن مصيره شخصياً في اليوم التالي لانتهاء هذه المجزرة.

*كاتب سوري