العقلية التفاوضية الفلسطينية: نموذج جديد على طريق التحرير
مايو 31, 2024 10:00 ص*وسام سباعنة
لم يكن تصريح رئيس تحرير “ميدل إيست آي” ديفيد هيرست، مستغربا، والذي قال فيه: “هذه هي المرة الأولى التي يتمتع بها الشعب الفلسطيني بقيادة لا تتنازل عن حقوق شعبها بالمفاوضات”. على الرغم من قسوة هذا التصريح وعموميته إلا أنّه يأتي في ظل الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة والمعركة الشرسة التي تخوضها المقاومة الفلسطينية.
وعلى الرغم من همجية آلة الحرب الصهيونية وإمكانياتها الهائلة على كل المستويات والدعم الغربي اللامحدود على كافة الصعد، لم يستطع العدو تحقيق أي من أهدافه المعلنة وغير المعلنة من هذه الحرب الإجرامية التي يشنّها منذ السابع من أكتوبر.
فها هي المقاومة الفلسطينية ثابتة في قتالها ضد قوات الاحتلال، وصمود الغزاويين يُدرّس في تاريخ الشعوب المناضلة لأجل حريتها واستعادة حقوقها، وها هم قادة الكيان الصهيوني لم ينجحوا بتحرير أسراهم لدى حركتي حماس والجهاد الإسلامي بل ساهموا بقتل العشرات منهم في سياق الإبادة الممنهجة التي يمارسونها منذ ثمانية أشهر، بل وتمكّن القسّاميون من أسر جنود إسرائيليين جدد خلال عملية نوعية و مركبة في مخيم جباليا في قطاع غزة، هي الأولى من نوعها منذ بدء “إسرائيل” عدوانها على غزة، وبات الجميع على قناعة بأنّ السبيل الوحيد لاستعادتهم هو التفاوض. وتهدف “إسرائيل” إلى قتل أكبر عدد ممكن الفلسطينين وتدمير البنى التحتية في القطاع للضغط من أجل إعادة أسراها.
وبموازاة المعركة العسكرية، تخوض المقاومة الفلسطينية معركة سياسة لا تقل شراسة وصعوبة، وأهمها العملية التفاوضية التي بدأت في اليوم التالي على انطلاقة معركة طوفان الأقصى.
فما هي المرتكزات الأساسية التي استند إليها رئيس تحرير الـ”ميدل إيست آي” في تصريحه هذا؟، والذي أتبعه بمقالة مطولة نُشرت في جريدة نيويورك تايمز عن العملية التفاوضية والمفاوض الأساسي من جانب المقاومة الفلسطينية يحيى السنوار، في ما يلي قراءة وتحليل لمسار المفاوضات على وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى:
أولا، إنّ استمرار عمليات المقاومة في غزة وتصاعد وتيرتها حرم جيش الاحتلال من الاستقرار أو السيطرة على أي منطقة دخلها في القطاع، بل على العكس من ذلك تحولت القوات الصهيونية المتوغلة إلى أهداف سهلة للمقاومة الفلسطينية وباتت خاصرة رخوة في جيش الاحتلال الذي يحاول الإيهام بقدرته على البقاء لأمد طويل والسيطرة على القطاع حتى بعد انتهاء الحرب. هذا بشكل أساسي حرم المفاوض الإسرائيلي قوة اليد العليا التي تحولت إلى المفاوض الفلسطيني بسبب قدرته المستمرة على مقاومة الاحتلال بكل كفاءة وفاعلية .
ثانيا، الشرعية والتفويض. من المعروف في علم المفاوضات أنّ أحد الشروط الأساسية لمفاوض قوي هو تمتعه بالتكليف الكامل من كل أصحاب الشأن لتمثيل طرفهم في المفاوضات. وقد حصل المفاوضون الحاليون في حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) على تكليف واضح من كافة فصائل المقاومة الفلسطينية العاملة في قطاع غزة بتمثيلهم، وعلى ثقتهم بهذه القيادة وقدرتها على تحصيل أفضل النتائج الممكنة من هذه العملية بما يتوافق مع مصالح الشعب الفلسطيني في غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام. هذا التفويض هو حصيلة الدماء الفلسطينية، ومعبّد بتضحيات أهل غزة، ونتيجة التخطيط والجهوزية التامة لمعركة هي الأشرس في تاريخ الصراع مع الاحتلال.
فهناك شعور سائد لدى الشعب الفلسطيني بضرورة ألا تذهب كل هذه التضحيات سدى، وهناك تزايد مستمر بالثقة في المقاومة الفلسطينية وقدرتها على الصمود حتى النصر وبأنّها الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق وإنصاف الضحية وضمان مستقبل مشرق للفلسطينين والقضية الفلسطينية. كل هذا أعطى قوة ومسؤولية كبيرة للمفاوض الفلسطيني مقابل المفاوض الإسرائيلي الذي على الرغم من تفويضه رسمياً من قِبل حكومة العدو إلا أنّ هذا التفويض غير كامل ومنقوص وضعيف في ظل الاتهامات التي يتعرض لها “نتنياهو” داخلياً من قِبل عدة مسؤولين في الجيش والاستخبارات والمعارضة الداخلية، التي تتنامى حتى على المستوى الشعبي عبر التظاهرات المتصاعدة داخل الكيان، والتي تحاول الضغط بشكل مستمر لإتمام صفقة تبادل للأسرى.
وقد ترافق هذا التفويض الشعبي على المستوى الوطني مع وجود دعم واضح من الجبهات الإقليمية حيث أعلنت المقاومة الاسلامية في لبنان أنّ الجنوب اللبناني جبهة إسناد لغزة وأنّ استهداف العدو لن يتوقف فيها حتى تتوقف الحرب في غزة، وكذلك أعلنت حركة أنصار الله في اليمن لا وبل وضعت السفينة الإسرائيلية المحتجزة مع طاقمها تحت تصرف المقاومة الفلسطينية للتفاوض عليها. وتعاطت فصائل المقاومة الفلسطينية مع كل ذلك بإيجابية ورفعت مستوى التنسيق والتشاور مع الفصائل الفلسطينية المقاوِمة ومع الحلفاء في لبنان واليمن والعراق.
ثالثا، من شروط المفاوضات الناجحة معرفة العدو معرفة جيدة والقدرة على التوصل إلى فهم التناقضات الداخلية لديه , و العمل على تعزيزها ، بالإضافة إلى معرفة الخطوط الحمر والأولويات التفاوضية والنقاط التي من الممكن تحصيلها من هذا العدو ونقاط الضعف والقوة والخطط الاستراتيجية وآليات الاستجابة وطريقة عمل الجيش والاستخبارات والخطط الهجومية والدفاعية ونقاط الارتكاز الأساسية والعلاقات الاستراتيجية التي يتمتع بها الخصم، من أجل استخدام كل هذه المعرفة لتحصيل شروط تفاوضية ومكتسبات أفضل خلال عملية التفاوض، وهذا ما برعت به المقاومة الفلسطينية في غزة والتي اختبرت هذا العدو عن كثب خلال الـ76 سنة الماضية. وليس من باب الصدفة أن يكون “السنوار” قد أمضى 20 عاماً في سجون الاحتلال والذي قضى فترته فيها بدراسة لغة العدو ومجتمعه وكل ما يتعلق به.
رابعا، الوقت والتوقيت. تمارس “إسرائيل” عملية انتقام همجية وممنهجة في محاولة يائسة لتحقيق أي صورة نصر مهما كانت تافهة. وفي نفس الوقت تتصاعد المقاومة في غزة بمرور الوقت وتستمر حتى اللحظة مما يكبّد الاحتلال خسائر بشرية ومادية متصاعدة مع تزايد نقاط الاشتباك اليومية في القطاع. لقد استطاعت المقاومة تثبيت معادلة الانسحاب الكامل من خلال النار. فالبقاء في غزة بات أمراً مكلفاً على كل المستويات.
وبهذا أصبح الوقت، على الرغم من اختلال موازين القوى، في مصلحة الفلسطينيين. وهنا لا نقول أنّ المفاوض الفلسطيني لا يسابق الزمن أيضاً للتوصل إلى اتفاق ينهي هذه الحرب ويعلن النصر للمقاومة وفلسطين. غالباً ما يكون الوقت في صالح أصحاب الأرض والحقّ في ما يكون المعتدي على عجلة لإنهاء المعركة نظراً لحجم الأكلاف وعظمة الخسائر.
أما التوقيت فقد كان مدروساً من حيث الردود والاقتراحات التي قُدّمت من الوسطاء. وفاجأت المقاومة، الاحتلال، في الهدنة الأولى حين ظهرت على بعد أمتار عدة من مشفى الشفاء وعبر عرض عسكري أثار العديد من إشارات الاستفهام حول كذب وادعاءات جيش العدو بالسيطرة على شمال غزة و تدمير المقاومة فيها. وعندما بدأ وزير خارجية أمريكا أنتوني بلينكن، حملته الإعلامية بالتسويق للمقترح المقدّم -عبر الوسطاء- للفلسطينين، جاء رد المقاومة المفاجئ والذكي عكس ما يتمناه الجانبان الأمريكي والإسرائيلي اللذان كانا في ذلك الوقت يعملان معاً على مخطط اجتياح رفح. فقد أعادت المقاومة الكرة إلى ملعب العدو الذي بدا الارتباك واضحاً عليه وعلى حكومته التي توشك على الانهيار مع تصاعد المظاهرات الداخلية وانضمام المزيد من أهالي الجنود المشاركين في معارك غزة إليها.
خامسا، التجارب السابقة. من المهم في هذا السياق الإشارة إلى صفقة جلعاد شاليط التي أبرمتها المقاومة عبر تشكيل وحدة مفاوضات بقيادة محمد الضيف وأحمد الجعبري ومروان عيسى والتي خرج من خلالها “السنوار” نفسه، ويُقال إنّه شارك بصوغها شخصياً من داخل السجن في حينها.
ومؤخرا، أعلنت وسائل إعلام أمريكية عن جهود استخباراتية وأمنية أمريكية تمت بهدف تحديد موقع “السنوار” واغتياله بهدف الحصول على أي صورة من صور النصر التي تسعى “إسرائيل” لتحقيقها، ما يشكّل فرصة للوصول لاتفاق وإنهاء الحرب التي تضاعفت أثمانها على الكيان الصهيوني.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الموضوع هو: كيف تفاوض “إسرائيل” السنوار وهي تقول إنّها ستقضي عليه وعلى المقاومة الفلسطينية؟.
وكما استفادت المقاومة الفلسطينية من التجارب الذاتية السابقة فإنّها استفادت أيضاً من تجارب الآخرين. فعند اجتياح بيروت وحصارها لمدة 83 يوماً في صيف 1983، خرج الفدائيون الفلسطينيون من بيروت دون أية ضمانات فعلية لحماية المخيّمات. وقد تمّ ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا مباشرة بعد تنفيذ الاتفاق القاضي بخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت. وفي اتفاق أوسلو تنازل الوفد المفاوض عن كل ما يمكن التنازل عنه وأبرم الاتفاق بدون مشاورات أو تنسيق مع أي فصيل آخر. وهنا، نستشف حتى تجارب الثورات الأخرى (فيتنام و الجزائر) أو المقاومة اللبنانية، فقد قرأت المقاومة الفلسطينية التجارب السابقة واستقت منها الدروس والعِبر ليس فقط على المستوى العسكري والأمني واللوجستي بل أيضاً في ما يتعلق بالملف السياسي وعملية المفاوضات.
سادسا، الإعلام والمفاوضات. على الرغم من أهمية دور وسائل الإعلام المحلية والدولية ووسائل التواصل الإجتماعي، والناشطين الذين نقلوا على مدار الساعة وعلى الهواء مباشرة الجرائم المروعة التي يرتكبها العدو الصهيوني ضد أبناء غزة، إلا أنّ الإعلام العسكري التابع للمقاومة الفلسطينية، وبالذات الخاص بكتائب القسام، قد أبدى فاعلية منقطعة النظير من خلال توثيق عمليات المقاومة والخسائر التي يتكبدها جيش الاحتلال وطبيعة العمليات وكافة التفاصيل التي منحت المقاومة ثقة ومصداقية أمام العالم.
بالمقابل، لا الناطق باسم جيش الاحتلال ولا رقابته العسكرية ولا جهازه الإعلامي وفريق الصحافيين الصهاينة الذين وظّفهم من أجل ترميم صورة الردع التي فقدها، استطاعوا الحصول على صورة نصر مرجوة. و سرعان ما اكتشف العالم كم التلفيق والكذب الذي مارسه الإعلام الصهيوني في روايته عن أحداث 7 أكتوبر وخلال حرب غزة.
سابعا، الاستراتيجي والتكتيكي. رسم المفاوض الفلسطيني نقاطاً استراتيجية لا يمكن المساومة عليها مثل: وقف نهائي لإطلاق النار، الانسحاب الشامل من غزة ومعالجة الوضع الإنساني والاحتياجات الإنسانية والتشغيلية لمرافق البنى التحتية.
كما أبدى مرونة في ما يتعلق بأرقام المعتقلين وغيرها من التفاصيل المؤقتة التي حاول العدو الضغط باتجاهها.
ثامنا، المفاوضات على المستقبل. أصبح الجميع مدركاً أنّ ما يحصل في غزة ليس مقتصراً على هذا الشريط الساحلي وإنّما يتجاوزه إلى أبعد من ذلك بكثير، بل ومن الممكن أن يتجاوز القضية الفلسطينية إلى أبعاد عالمية تتعلق بإعادة التوازن على الساحة الدولية وإعلان انتهاء السيطرة الأمريكية على العالم ومقدّراته. كما أدرك الجميع أنّ المفاوضات في غزة لا تنحصر بما يجري في الوقت الحالي بل تتعلق بشكل أهم وأكبر بما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، فقد أفشلت المقاومة كل المحاولات لإنشاء بنى فلسطينية بديلة لها في غزة من خلال صمودها ومقاومتها المستمرة. يأتي كل ذلك مع إجماع الدول في أروقة الأمم المتحدة على إعلان الاعتراف بدولة فلسطينية والقبول بعضويتها رغم اصطدام هذا الإجماع بالفيتو الأمريكي. ويتزايد التوجه الدولي الشعبي والرسمي لمقاطعة العدو وقطع العلاقات معه.
بالمحصّلة، أدركت المقاومة الفلسطينية أنّها تستطيع تحقيق النصر من خلال معادلة المقاومة والصمود. فالشعوب عندما تدرك إمكانية الانتصار تكون على استعداد كامل للصمود وتقديم التضحيات للتحرر من الاحتلال ولتصبح دولة فلسطينية حرة وعاصمتها القدس وصولاً إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني.
وكما تغيرت صورة الفلسطيني من “أوسلو” إلى “طوفان ألأقصى” وظهر إلى الوجود مقاوم يفاوض بشكل جدي، واضعاً المسؤوليات الوطنية الكبرى كاستراتيجية للتحرير ومعيداً المفاوضات إلى مربعها الحقيقي وهي مجال استعادة الحقوق، فإنّ المقاومة الفلسطينية لن تخسر ما أنجزته عسكرياً على الأرض من خلال المفاوضات بل على العكس من ذلك ستستعاد الحقوق من خلالها وبواسطتها.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
إتفاقيات أوسلو, الاحتلال الإسرائيلي, الحرب على غزة, العدو الصهيوني, الفيتو الأمريكي, المقاومة الفلسطينية, صفقة تبادل الأسرى, صمود, طوفان الأقصى, فلسطين المحتلة, مفاوضات, وسام سباعنة, وقف إطلاق النار