عن مخاض المنطقة والعالم الجديد

التصنيفات : |
يوليو 11, 2024 6:54 ص

*أحمد حسن

أصبح واضحاً للجميع أنّ المنطقة تتجه إلى مشهد جيوسياسي جديد واصطفافات سياسية مختلفة بشكل أو بآخر عما عرفناه قبل “طوفان الأقصى” الذي كان القشة التي قصمت ظهر بعير المرحلة السابقة باصطفافاتها المعروفة والتي أطلق بيانها التأسيسي باراك أوباما من جامعة القاهرة وانخرطت فيها دول وقوى سياسية ومجتمعية وشعبية -بعضها حمل مطالب سياسية واقتصادية محقّة بالكامل- وعصابات إرهابية جمعتها كلّها أحلام وأوهام عدّة.

بيد أنّ الأوهام والأحلام لم ولا تقتصر على تلك المرحلة الآفلة فقط بل إنّها، وتلك عادة التاريخ، ترافق هذه المرحلة الجديدة أيضا، فمثلاً يشدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -كمثال على القوى التي انخرطت في المشروع الغربي- في مسعاه لاستيعاب الحقائق الجديدة والاستفادة منها، مثلما حاول الاستفادة من حقائق المرحلة الماضية، على إعادة العلاقات مع سوريا “إلى النقطة نفسها التي كانت عليها في الماضي”، في ما ترتفع آمال “بعض” أبناء المنطقة من دول ومنظمات في بلوغ الذروة الأعلى نتيجة الصراع الحالي مع الكيان الصهيوني وداعميه، وذلك، كما يبدو وكما تقول دروس التاريخ، أمر محال بالنسبة للطرفين، فمن جهة أولى لا عودة للماضي في العلاقات السورية- التركية التي ستحكمها لفترة طويلة مرارة دروس المرحلة السابقة وبالتالي ستُبنى في حال استعادتها على أسس جديدة، ومن جهة ثانية لا يسمح الوضع الدولي الحالي وتوازنه القلق ببلوغ كل الأهداف المشروعة لأبناء المنطقة في المستقبل القريب والمنظور على الأقل.

إنّ غزل تركيا السياسي لدمشق لا ينبع من إيمان أردوغاني مستجدّ بعلاقات طيبة مع الجيران بقدر ما ينبع من اعتراف ضمني بفشل الأوهام السابقة وعلى رأسها تلك المتعلقة بوهم استتباع دمشق للباب العالي

وبالتأكيد، فإنّ غزل تركيا السياسي لدمشق لا ينبع من إيمان أردوغاني مستجدّ بعلاقات طيبة مع الجيران بقدر ما ينبع من اعتراف ضمني بفشل الأوهام السابقة وعلى رأسها تلك المتعلقة بوهم استتباع دمشق للباب العالي واستعادة بقية الولايات العثمانية إلى الحضن “السلطاني”، والأهم أنّه ينبع من وعي مصلحيّ بالمخاطر التي سببتها هذه الأوهام وعلى رأسها تفاقم قضية اللاجئين السوريين في الداخل التركي وانعكاساتها السلبية على التركيبة السكانية كما على الاقتصاد هناك، وأيضاً تعاظم المخاطر الأمنية سواء تلك التي يشكّلها جيش الإرهاب في طريق إيابه من غزوة دمشق -وهو طريق الذهاب التركي ذاته- أو تلك التي يشكّلها مشروع “وحدات حماية الشعب الكردية”، الانفصالي بالمحصلة، في شمال سوريا على الأمن القومي التركي ذاته، وتلك مخاطر تظهّرت مفاعليها في صناديق اقتراع الانتخابات البلدية الأخيرة هناك.

أما بالنسبة لأبناء المنطقة فقد كان تأثير “طوفان الأقصى”، وما تلاه من أشهر الصمود الأسطوري، في البنية السياسية والعسكرية والاجتماعية الإسرائيلية دافعاً كي يرفعوا من سقف تطلعاتهم وآمالهم، لكنّ استمرار حاجة الغرب السياسي إلى المخفر الإسرائيلي المتقدّم يؤكد أنّ تحقيق الهدف الكبير لم يحن أوانه بعد رغم كل التصدع الذي لحق بأركان المعبد، الغربي، بالمحصلة النهائية.

وبالطبع، فإنّ الصورة لا تكتمل إلا إذا أضفنا إليها تلك التحولات السياسية الانتخابية في فرنسا وبريطانيا معطوفة على الارتباك الرئاسي في أمريكا والتقارب الروسي- الهندي وما إلى ذلك من تطورات عالمية، فتلك معالم هذه الصورة الجديدة التي تترسم عالمياً وستنعكس إقليمياً بكل تأكيد.

إنّ رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس المشاركة في الحوارات الفلسطينية في الصين نهاية حزيران/ يونيو الماضي، يستند إلى طلب ودعم من دول كبرى لا تريد تظهير الدور الصيني في المنطقة

لكن، وبما يعنينا في منطقتنا، فإنّ المتضررين من الصورة الجديدة يحاولون التعطيل وهذا، على سبيل المثال لا الحصر، هو المغزى الحقيقي لرفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس المشاركة في الحوارات الفلسطينية في الصين نهاية حزيران/ يونيو الماضي، فهو رفضٌ وإن كان نابعاً من قصص الصراع الداخلي على “السلطة” ومكاسبها، إلا أنّ له جذوراً إقليمية ودولية أيضاً فهو يستند إلى طلب ودعم من دول كبرى لا تريد تظهير الدور الصيني في المنطقة، كما من أنظمة عربية قامت تاريخياً من أجل حماية “إسرائيل” وتطبيع وجودها في المنطقة، وبالتالي تبدو هذه الأنظمة متضررة بدورها من الصورة الجديدة وتحاول تأخيرها أو التقليل من تبعاتها ومفاعليها قدر الإمكان.

خلاصة القول، هناك تحولات جديدة في المنطقة وهناك صورة بدأت ملامحها تبدأ بالظهور لكنّ مخاض بروزها سيشهد خضات وتقلبات مرتبطة موضوعياً وزمنياً بمخاض النظام العالمي الأكبر، وبالتالي فإنّه وكما سقطت أوهام ومشاريع معيّنة على مذبح الصراع على “الكعكعة” العالمية الكبرى، فإنّ شخصيات وأفراد سيسقطون أيضاً بعضهم لانتهاء أدوارهم، وبعضهم لأنّهم يمثلون عقبة ما، وبعضهم كمجرد “أضاحٍ” ضرورية على مذبح صورة العالم القادم.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,