تنفير الجماهير من المقاومة: الاحتلال وصراع الأفكار

التصنيفات : |
يناير 27, 2025 11:32 ص

*ثائر أبو عياش – الضفة المحتلة

في سياق الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، يعتبر استخدام الأفكار والتصورات جزءاً لا يتجزأ من الحرب النفسية والسياسية التي يخوضها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. من خلال هذه الحرب الفكرية، يسعى الاحتلال إلى تدمير “فكرة المقاومة” التي تُعد أحد أعمدة الصمود الفلسطيني منذ عقود. هذه المحاولات تتخذ أشكالاً متعددة، منها تنفير الجماهير الفلسطينية من المقاومة، وكذلك محاولة إضعاف الروح المقاوِمة في صفوف المجاهدين أنفسهم. في هذا المقال، سنحاول استكشاف هذه الظاهرة من خلال تحليل أبعاد الحرب الفكرية التي يمارسها الاحتلال، وكيف نجحت المقاومة الفلسطينية في قلب الطاولة عليه، بل وإعادة إحياء جدوى المقاومة ليس فقط في مواجهة الاحتلال بل أيضاً في تعزيز الوعي لدى الجماهير الفلسطينية.

حرب الاحتلال الفكرية

منذ اللحظات الأولى للاحتلال، عملت “إسرائيل” على تشويه صورة المقاومة الفلسطينية عبر عدة وسائل إعلامية وسياسية. غالباً ما يتم تصوير المقاومة الفلسطينية على أنّها “عنف” و”إرهاب”، وهو خطاب يستخدمه الاحتلال لتبرير جرائمه في قتل الفلسطينيين. هذه الصورة النمطية تسعى إلى نزع الشرعية عن المقاومة وكأنّها فئة مرفوضة مجتمعياً وأخلاقيا. وهنا، يلعب الإعلام دوراً كبيراً في نشر هذه الأفكار، من خلال قنواته التي تروّج لخطابات قمعية تُجسد صورة الفلسطيني المقاوم كعدو إنساني، حتى وإن كان يحارب من أجل حقوقه.

في هذا السياق، يمكننا أن نستحضر فكرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حول تأثير الحرب النفسية على الوعي الجماهيري. سارتر كان يؤمن بأنّ الوعي الجماهيري يمكن تشكيله بشكل متعمد من خلال وسائل الإعلام واللغة. فكما في الحرب الفعلية، يكون هنالك هجوم على “الوعي” و”الوجدان” لشلّ القدرة على المقاومة الفكرية.

الثيران وراء الراية الحمراء” وصراع الفكر

في حرب الأفكار، تُستخدم عدة استراتيجيات لتوجيه الجمهور نحو أهداف معينة. إحدى هذه الاستراتيجيات هي ما يمكن أن نسميه “اللعبة الفرنسية” التي اقترحها الفيلسوف ميشال فوكو، والتي يمكن تفسيرها في هذا السياق على النحو التالي: الثيران (الجماهير) تُحشر في داخل الميدان وتُحفّز على الركض وراء الراية الحمراء. في هذا التشبيه، يتم تصوير الفلسطينيين على أنّهم “ثيران” يركضون وراء خطاب الاحتلال الذي يحاول تزييف الواقع، مما يعميهم عن رؤية الحقيقة المخفية خلف الراية الحمراء. الهدف من ذلك هو جعل الجماهير تتّبع ما يُرسم لها من صور ذهنية، حيث تُسلب قدرتها على تحديد الخيارات أو المقاومة في مواجهة السيطرة الإسرائيلية.

يسعى الاحتلال يسعى للهيمنة على معنى المقاومة وتوجيهه في اتجاهات تجعل الجماهير غير قادرة على تبني هذا الخيار في المقام الأول

كان فوكو يرى أنّ القدرة على السيطرة على العقل الجماهيري هي في جوهرها قدرة على التحكم في التفسير والتأويل. هذا يعني أنّ الاحتلال يسعى للهيمنة على معنى المقاومة وتوجيهه في اتجاهات تجعل الجماهير غير قادرة على تبني هذا الخيار في المقام الأول.

كيف نجحت المقاومة في استعادة جدوى المقاومة؟

على الرغم من هذه الحملات الفكرية المدعومة من الاحتلال، فإنّ المقاومة الفلسطينية، وعلى الرغم من التحديات الكبيرة، استطاعت أن تظل جزءاً حيوياً من الصراع الفلسطيني. وفي هذا السياق، تأتي مشاهد تسليم الأسيرات الأربعة في غزة كواحدة من اللحظات الحاسمة التي ساعدت في استعادة جدوى المقاومة ليس فقط على صعيد المواجهة مع الاحتلال، بل أيضاً على مستوى الوعي الفلسطيني العام.

تسليم الأسيرات لم يكن مجرد “رسالة” إلى الاحتلال، بل كان أيضاً بمثابة استعادة للشرعية وإعادة تجديد للثقة في خيار المقاومة، في وقت كانت محاولات الاحتلال قد سعت بشكل مكثف إلى تفكيك هذا الخيار

إحدى النقاط الهامة التي يجب التوقف عندها هي أنّ المقاومة الفلسطينية، من خلال هذا الفعل، استطاعت أن تبرز صورة المقاومة كقوة بشرية منظّمة لا تقتصر على الهجوم العسكري فحسب، بل تشمل أيضاً العمل السياسي والتفاوضي الذي يعزز مكانة المقاومة في الداخل الفلسطيني وفي أعين العالم. تسليم الأسيرات لم يكن مجرد “رسالة” إلى الاحتلال، بل كان أيضاً بمثابة استعادة للشرعية وإعادة تجديد للثقة في خيار المقاومة، في وقت كانت محاولات الاحتلال قد سعت بشكل مكثف إلى تفكيك هذا الخيار.

وفقاً للفيلسوف السياسي أنطونيو غرامشي، تُعدّ فكرة “الهيمنة” إحدى الأدوات التي يستخدمها الاحتلال في السيطرة على المجتمع. غرامشي يتحدث عن “الهيمنة الثقافية” التي تستهدف إضعاف القوى التي تحمل مشاريع بديلة للواقع السياسي والاجتماعي السائد. المقاومة الفلسطينية التي قادت هذا الحدث الكبير في غزة نجحت في إعادة الهيبة لفكرة المقاومة، وجعلت منها خياراً جماهيرياً قابلاً للتمسك به في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية.

تحقيق الانتصار الفكري: “مقاومة على جبهتين

عند النظر إلى هذا المشهد من الزاوية الفكرية، يمكن القول إنّ المقاومة الفلسطينية قد حقّقت انتصاراً فكرياً على الاحتلال. هذا الانتصار ليس فقط في التصدي لأجهزة الاحتلال القمعية، بل في استعادة جدوى المقاومة في الوعي الشعبي الفلسطيني. فقد تمكنت حماس، من خلال هذا الحدث، من إرسال رسالة واضحة إلى الجماهير الفلسطينية بأنّها لا تمثّل فقط خياراً مقاوماً في مواجهة الاحتلال، بل تمثّل أيضاً الطريق نحو استعادة الحقوق والكرامة.

باءت محاولات تشويه صورة المقاومة بالفشل، بل بالعكس، أعادت المقاومة طرح نفسها كقوة شرعية في الساحة الفلسطينية

أما على صعيد الاحتلال، فقد باءت محاولات تشويه صورة المقاومة بالفشل، بل بالعكس، أعادت المقاومة طرح نفسها كقوة شرعية في الساحة الفلسطينية. كأنّ الرسالة التي أُرسلت هي أنّه حتى في أصعب الظروف، تبقى المقاومة هي الخيار الحتمي والوحيد.

خاتمة: هل استطاعت المقاومة إعادة جدوى فكرة المقاومة؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتطلب الاعتراف بقدرة المقاومة الفلسطينية على تحقيق تأثير قوي في تفكير الجماهير. فبعد مشهد تسليم الأسيرات، أصبح من الواضح أنّ المقاومة لا تزال تشكّل القوة الفكرية والسياسية التي تتحكم في الوعي الفلسطيني وتوجهه. بالتالي، على الرغم من كافة محاولات الاحتلال لقطع الطريق على هذه الفكرة، فإنّ المقاومة الفلسطينية قد أثبتت مرة أخرى أنّها ليست مجرد خيار عسكري، بل هي رسالة أعمق تتعلق بمستقبل شعب وحقّه في تقرير مصيره.

إذا، حتى لو كان الاحتلال يهدف إلى جعل الجماهير تتبع “الراية الحمراء” المرفوعة من قِبلهم، فإنّ المقاومة استطاعت أن تُعيد توجيه هذا الوعي لتحمل “الراية الفلسطينية” التي تشكّل جوهر الصراع المستمر.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , ,